في تجربتك المسرحية عدت إلى النهل من التراث الشعبي المغربي ومن الذاكرة الجماعية، كيف تعاملت مع هذا التراث منذ «عطيل الخيل والبارود» إلى نصوصك المتأخرة؟ < أنا لا أشكل استثناء بالنسبة إلى كتاب المسرح في العالم، وإذا تأملنا في تاريخ المسرح العالمي فإننا سنجد أن هذا المسرح ركز على وجه الخصوص على التراث وعلى مكونات الثقافة الشعبية لكي يتواصل مع أكبر قدر من الجمهور، ولنا في تجربة المسرح اليوناني أكبر مثال، حيث لم يتوقف هذا المسرح عن النهل من أسطورة الإلياذة وأسطورة الأوديسا، وصولا إلى المسرح الحديث. وبالتالي فإن مهمة المسرح هي أن يقرأ الواقع من خلال أحداث الماضي ومن خلال المثل ومن خلال الأغنية، فالمسرح قائم على الاستعارة، ومنها ينطلق كي يبني حقيقة الواقع وحقيقة التاريخ. وفي اعتباري، إن المسرح هو القناع، والقناع يتغير من لحظة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر، ومنه تنبثق لغة الحاضر، وعلى أساسه تقوم اللغة المسرحية. - هل تكتفي بالتراث كمادة جاهزة في مسرحياتك أم تعمد إلى إعادة إنتاجها؟ < الحالة التراثية بالنسبة إلي حالة متغيرة، لا أبني نصي على المادة الشفوية أو على المثل أو على الحكاية الأم باعتبار ذلك شيئا معطى وجاهزا، ولكن أقوم بنوع من القراءة لهذه المادة، أي أني أسرب رؤيتي إلى المادة الأصلية، وهذا ما فعلته في مسرحيتي «امرؤ القيس في باريس» عندما قذفت الشاعر العربي الشهيرفي مناخ جديد عليه، مناخ الحرية والانفتاح، وتتبعت حياته التي عبر عنها في قصيدته ومدى قدرته على مواكبة مناخ من مناخات الانفتاح، واكتشفت معنى التحدي الذي يمكن أن يوضع أمامنا، تحدي الحرية في المناخات المغلقة التي عشنا فيها، وهذا ما فعلته أيضا في مسرحيتي «عطيل الخيل والبارود»، فعطيل هنا البطل الأسطوري لا يحضر بالمعنى الشكسبيري، ولكنه عطيل المغربي، الذي يجرب مغامرات المقاومة، ويعيش تحديات مغرب الاستقلال، غريبا لا يعرفه أحد ولا يكاد يتعرف عليه الناس. بهذا المعنى، أقول إنه على المبدع أن يقوم بقراءة علمية لتراثه، لا أن يقدمه كما هو، دون أن نغفل التقاطعات السياسية التي يحبل بها هذا التراث، والتي بالإمكان القيام باستنتاجها وتوليدها بالاستناد إلى رؤية واضحة وعالمة. - هل قمت أنت بهذا المسح؟ وهل كانت تهمك الحادثة التاريخية أم شيء آخر؟ < بالنسبة إلي، لم يكن التاريخ مهما، ما كان يهمني هو روح التاريخ، لأن روح التاريخ أزلية، بينما التاريخ متكرر، ولذلك نجد أن شكسبير أكثر معاصرة لنا من كثير من الكتاب المجايلين لنا، وبالتالي أقول إن الأساسي هو أن نراهن على القيم، قيم الحق والجمال والعدالة والتوازن والقيم الإنسانية وتكافؤ الفرص لأنها قيم تشكل الثوابت أما من يراهن على المتغيرات فإنما يراهن على الزائل. - لكن كتابا مغاربة عادوا إلى التراث، كيف تقيم هذه العودة؟ هل كانت موفقة؟ < في الحقيقة، هناك من عاد إلى التراث هروبا من الحاضر وهذا نجده عند الكثير من الكتاب المغاربة، وكان أن عكفوا على الاقتباس أو الترجمة أو حتى الاختلاس، وبالنتيجة تواروا خلف الأقنعة التاريخية، وهناك من كتب المسرح التاريخي، لكن عموما لم تكن العودة إلى التراث قادرة على سبر أعماق هذا التراث وسقطت في نوع من التسطيح ومن التبسيطية الشديدين. لابد من معاودة النظر في موضوعة التعامل مع الثقافة الشعبية ومع الذاكرة الجماعية، إنهما من الخطورة بحيث لا نعلم. - وأنت من خلال تعاملك مع المادة التراثية، هل كنت تعمل على إعادة النفخ فيها وتجليتها، أم إنك قدمتها كما هي؟ < دعني أقول لك إن الحياة بطبيعتها ثورية، والحقيقة التي تفقأ العيون، أيضا، بطبيعتها ثورية، وعندما نكتب نصا مسرحيا فإننا نراهن على الحقيقة، وهذا ما لا تقبله الأوضاع الجامدة، وكبار المبدعين يعانون من سطوة الواقع الذي لا يرتفع، وهذا ما يفسر في تجربتي صراعي مع أهل الحل والعقد في البلاد، وفي النهاية فإن أي نص مسرحي هو علاج لشيء ما، ولا يوجد علاج بدون مرض، والمسرح في الأول والمنتهى كشف، وإذا فشل الكاتب في تحقيق ذلك عليه أن يكسر أقلامه ويصمت. - يحتاج التراث المغربي إلى مؤسسة رسمية لجمعه وتدوينه وحمايته من الزوال، لكن رغم ذلك لم تتم مبادرة على هذا المستوى؟ < التراث الشفوي شيء ورثناه بجدارة، وما نرثه عن الماضي لا ينبغي أن يبقى كما هو، بل ينبغي أن نحينه ونثوره، وهنا تكمن المسألة، فعملية تثوير التراث عملية معقدة وليست بالسهولة التي نعتقد. وميزة مفردات الذاكرة الشعبية، أنها حية وقادرة على الصمود والتأقلم مع تقلبات الراهن، وهنا نرى كيف تعامل توفيق الحكيم، مثلا، مع قصة أهل الكهف، وكيف استثمرها في نصه، ولذلك من السهل تماما الحديث عن مسارح عالمية وعن أشكال كثيرة للتعامل مع الثقافات الشعبية، فلكل شعب من الشعوب «رصيده من الأصالة» كما قال الراحل الحسن الثاني عندما أنجز الفنانون المغاربة ملحمة «رصيد الأصالة»، وهذا الرصيد إذا لم يتم الاعتناء به فإنه سينتهي إلى الصمت وإلى التناقص والضمور. - ما هي في رأيك مداخل الحفاظ على رصيد هذه الأصالة؟ < أعتقد أن المدخل واضح تماما، فإذا قلنا إن التراث هو مادة متحركة وحية، فينبغي أن نوجد لها المكان الصحيح والتربة التي بها تستطيع أن تحيا. ومن ثمة فإن الجامعة المغربية هي مدخل من المداخل وإمكانية من الإمكانيات التي تساهم في إغناء الدراسات التراثية وفي التعريف بإبداع الذاكرة الجماعية، وبدون ذلك، لا يمكن أن نتحدث عن هوية جماعية. كما أن إنشاء معاهد للبحث التراثي وللدراسات الفولكلورية شيء أساسي ولا محيد عنه، في أفق رد الاعتبار للثقافة الشعبية من ملحون وأهازيج وعادات وتقاليد وأدب شفاهي.. وتلك مسؤولية وزارة الثقافة وكافة الشركاء، وبدرجة أولى مسؤولية الدولة في ظل الهجوم الكاسح للعولمة ومحاولة السطو على الخصوصيات المحلية، وعلى ما يشكل هوية الجماعات البشرية.