في تخوم سلسلة جبال الأطلس المتوسط، تبدو الجماعة القروية «سبت آيت رحو» قابعة في صمت رهيب، فيما تثير رائحة شواء لحم الماعز عند مدخل الجماعة شهية المرء لتذوق طبق «الشوا» تحت خيام السوق الأسبوعي.. الفقر والعوز يضربان أطنابهما في هذه النقطة من المغرب العميق، فيما يبدو مسؤولوه غير مستعجلين بخصوص إلحاق المنطقة بركب التنمية. «المساء» انتقلت إلى القرى التابعة للجماعة القروية «سبت آيت رحو» واخترقت طرقها ومسالكها الوعرة لترصد حياة السكان في قرى ما زالت تنتظر وصول قطار التنمية لإنقاذ البلاد والعباد وللقضاء على الفقر والعوز. للوصول إلى «سبت آيت رحو»، كان علينا أن نشق طريقنا عبر مناطق «الرماني» و«زحيليكة»، ومنعرجات خطيرة تثير الرهبة في النفوس.. في الطريق إلى هذه الجماعة القروية، تتولى الماعز مهمة «شرطي المرور»، تأمر السائق بتخفيف السير حتى يمر موكبها في تبختر، ثم نكمل سيرنا بين جبال الأطلس المتوسط الشامخة، التي تخفي من ورائها قرية تحمل عنوان «التهميش» في اسم «الجماعة القروية لسبت أيت رحو» في إقليمخنيفرة. يؤكد مسؤولو ومنتخبو الجماعة أن الوضع بدأ يتغير، رغم ضعف الميزانية المخصصة للجماعة، لكن المواطن هنا يصر على أن المنطقة ما زالت تعرف تهميشا فظيعا، وكأنها خارج تفكير من يهندسون لمخططات التنمية في بلادنا. «إخساخ أظبيب، إخساخ ومان، دكولشي» (نحن في حاجة إلى طبيب، إلى ماء وكل شيء).. تقول رابحة، ذات الخمسة والستين عاما، في حديث إلى «المساء». سحنة هذه المرأة الأمازيغية، التي تضع على رأسها «تسبنيت»، وتجاعيد وجهها تشيان بالظروف القاسية التي تعانيها الساكنة. الحكومة.. هي أظبيب يجعل النزول بالجماعة القروية لسبت آيت رحو الإنسان يلمس، من الوهلة الأولى، واقعا مريرا تعاني منه الجماعة والساكنة. مسالك مهترئة وغير معبّدة، مركز صحي لا يوفر أدنى الخدمات وندرة في المياه، تزيد من معاناة الساكنة. «الحكومة هي أظبيب» (الحكومة هي الطبيب) تجيب فاظمة، التي لا تتحدث إلا الأمازيغية، على سؤال صحافي «المساء» بخصوص انتظارتها من حكومة عبد الإله بنكيران. نبرة تحمل الكثير من الحسرة والأسف على واقع لم يشأ أن يتغير منذ عشرات السنين. تعاني فاظمة، منذ سنوات، من مرض «الروماتيزم»، وهي الآن لا تستطيع أن تتحرك بشكل طبيعي، لكنّ ضعف حالها وعدم وجود طبيب قار في مستوصف الجماعة يجعلان معاناتها تتزايد، خاصة في فصل الشتاء. يتردد مطلب فاظمة بضرورة حضور طبيبة المركز الصحي على مدار الأسبوع على ألسن باقي سكان الجماعة القروية لسبت آيت رحو. أكد جميع من التقتهم «المساء» أن الطبيبة المشرفة على المركز الصحي تحضر مرتين أو ثلاثا على الأكثر في الأسبوع، ثم تعود إلى مدينة الرباط.. وقد أكد لنا أحد منتخبي الجماعة أنه تم توجيه مراسلات عدة لمندوبية وزارة الصحة ولجميع الجهات المسؤولة من أجل إيجاد حل لهذا المشكل، «لكنْ لا حياة لمن تنادي»، لتبقى حياة أكثر من 7 آلاف نسمة في مهبّ الريح، إن وقع مكروه لأحدهم. «قريس العقارب والولادة هما أكثر المشاكل الصحية التي نعاني منها»، تقول أمينة (اسم مستعار) وهي فاعلة جمعية في منطقة سبت آيت رحو. التقيناها وهي تهمّ بدخول الخيمة الأمازيغية التي كانت بسيمة الحقاوي، وزيرة التضامن والأسرة والمرأة والتنمية الاجتماعية، تؤطر داخلها لقاء تواصليا حول دور المرأة القروية في التنمية.. قالت أمينة إن عددا من نساء القرية اضطررن إلى الولادة بشكل تقليدي عندما فاجأهنّ المخاض، ولم يجدن أدنى الظروف الصحية للوضع بشكل ملائم، حيث إن المستشفى الإقليميلخنيفرة يبعد عن الجماعة بحوالي 75 كيلومترا، مما يجعل الكثير منهن يلدن بشكل «تقليدي». واسترسلت الناشطة قائلة إن «تتكرر حوادث «القريصْ» كثيرا في هذه المنطقة، خاصة لدى الأطفال الذين يتعرضون للدغات الثعابين والعقارب، وفي ظل غياب مركز استشفائي لائق، فإن البعض منهم يصلون إلى مرحلة الخطر ونضطر، في غالب الأحيان، إلى استعمال الوسائل التقليدية». تعتبر الساكنة هنا أن ما تقوم به طبيبة المركز الصحي هو بمثابة تهكم وعدم اكتراث، خاصة أن عدد سكان الجماعة يتجاوز 7000 نسمة، وهو ما يزيد الضغط على المركز الصحي لمولاي بوعزة (حوالي 7 كيلومترات عن سبت آيت رحو)، رغم أن هذا المركز، بدوره، لا يتوفر على الإمكانيات الضرورية لإسعاف من يترددون عليه. وفي ظل هذا الوضع، يبقى المستشفى الإقليميلخنيفرة، أو في بعض الأحيان مستشفى مدينة خريبكة، الملاذ الوحيدَ لساكنة الجماعتين، التي تضطر إلى قطع عشرات الكيلومترات من أجل التطبيب والعلاج، في انتظار أن يجد مطلبهم طريقه آذان من يهمّهم الأمر.
شبح العطش يكون ساكنة جماعة سبت آيت رحو والمناطق المجاورة لها على موعد مع السوق الأسبوعي ليوم السبت. يأتي قرويون من مختلف الدواوير لعرض سلعهم واقتناء حاجياتهم. قبل ولوج الخيام المنصوبة على مدخل الجماعة، دخل صحافي «المساء» إحدى المقاهي المجاورة للسوق، وطلب فنجان قهوة، لكنّ النادل رد قائلا إن «البريسا» غير مُشغَّلة، لأن صبيب الماء ضعيف، وينقطع في مرات متكررة.. جواب مفاجئ، خاصة أن الجماعة جاءت في منطقة الأطلس المتوسط، المعروفة بعذوبة مياهها، لكن أحد المنتخبين أكد أن المنطقة تعاني ندرة المياه بفعل قلة المياه الجوفية والتساقطات المطرية، وهو ما يزيد من حدة صعوبة العيش. معاناة السكان مع ندرة المياه تؤكّدها عيشة، التي تقطن بجوار السوق الأسبوعي. سيدة تشي قسمات وجهها بأنها تجاوزت حاجز الستين سنة. رفضت، في البداية الحديث إلى صحافي «المساء»، مخافة أن تثير أقوالُها بعض المشاكل، لكن تواصلنا معها بالأمازيغية جعلها تحسّ بارتياح كبيير، لتبدأ في سرد معاناتها اليومية مع ندرة المياه. على جبينها وشمٌ أمازيغي في شكل «تاخلالت»، وعلى رأسها وضعت «تسبنيت» ذات ألوان فسيفسائية بالغة الجمال. أكدت عيشة، التي طلبت منا الابتعاد قليلا عن بعض «الغرباء»، حتى لا يسمعوا ما تقوله، ل«المساء» أن المنطقة تعاني من ندرة كبيرة في المياه، حيث تضطر إلى التنقل لمسافة كبيرة من أجل جلب المياه، لأن ضعف حالها لا يسمح بشراء قنينات المياه. ليست معاناتة هذه السيدة في جلب المياه وليدة اليوم، إذ قالت عيشة، التي تزوجت عن سن ال14 وعلامات الأسى بادية على محاياها: «الحيات إينو تراح غاس كي السقا نْوامانْ» (أفنيتُ حياتي كلَّها فقط في جلب المياه). منذ صغرها، كانت مهمة «عيشة» الأساسية هي جلب المياه ومساعدة عائلتها في الحقل وفي الأشغال المنزلية، وحين تزوجت، زاد الأمر تعقدا، وانضافت مهام جديدة زادت في معاناة هذه المرأة القروية. ويؤكد بعض الفاعلين الجمعويين في المنطقة أنه تم التفكير سابقا في مشروع لبناء سد لتخزين المياه، وكانت الدراسات قد بدأت، لكنْ سرعان ما توقف المشروع، مما يفرض على المسؤولين في المنطقة التفكير في حلول ناجعة لتزويد ساكنة المنطقة بالماء الصالح للشرب ومساعدة الفلاحين الذين لا تتجاوز منتجاتهم، في أحسن الأحوال، سقف الزراعات المعيشية. ثورة التمدرس لم يثبط واقع التهميش والهشاشة الذي تعاني منه المنطقة عزيمة فعاليات المجتمع المدني في الجماعة، التي تعمل جاهدة لرفع جزء من معاناة الساكنة، خاصة في مجال محاربة التمدرس. «جمعية مبادرات للتنمية القروية» واحدة من منظمات المجتمع المدني المعروفة في المنطقة، والتي عملت منذ تأسيسها على خلق شراكات فعالة مع القطاعات الوزارية المعنية بمشاريعها. استطاعت الجمعية أن تحقق حلم تلميذات المناطق المجاورة لآيت رحو بإخراج مشروع دار الفتاة القروية في الثانوية -الإعدادية الحسن الأول إلى حيز الودود في عهد الوزيرة السابقة نزهة الصقلي، والذي جاء كثمرة تعاون بين الجمعية ووزارة التضامن والأسرة والمرأة والتنمية الاجتماعية ووزارة التربية الوطنية وعدد من المتدخلين. كان محمد أوحجي، نائب رئيس جمعية مبادرات للتنمية الاجتماعية على موعد مع تدشين مجموعة من المرافق التعليمية والاجتماعية، التي ستُمكّن أبناء المنطقة، في مولاي بوعزة وسبت أيت رحو، من متابعة دراستهم ومحاربة الهدر المدرسي. التقينا محمد، الذي بدت على محياه علامات التعب بفعل ارتفاع درجة الحرارة، إلى جانب الخيمة الكبيرة التي شُيِّدت بطلب من الوزيرة بسيمة حقاوي لاحتضان لقائها التواصلي، إلى جانب عامل الإقليم والكاتب العامّ لوزارة التربية الوطنية وممثلة عن وزارة الداخلية وعدد من المنتخَبين. تحمل خطاب ونبرة هذا الرجل الكثير من الافتخار بالمشاريع التي تم تدشينها، حيث يؤكد أن ما تم إنجازه جاء في إطار المهامّ التي أخذتها الجمعية على عاتقها في مجال التربية والتكوين، والتي تسعى إلى تشجيع التكوين في المجال القروي، خصوصا تعليم الفتاة القروية. أكد هذا العارف بمشاكل وهموم المنطقة، في حديثه إلى صحفي «المساء» أنه عند بداية عمل الجمعية كان التمدرس لا يزيد عن نسبة 54%، والآن على مستوى مناطق تدخُّل الجمعية وصل إلى 100%، لأنه يتم التكفل بالتلاميذ على مستوى الإيواء والتغذية والدعم المدرسي والاجتماعي. سجن البطالة لا يتوفر «موحا»، ذو الخامسة والأربعين سنة، على عمل قار يضمن له دخلا شهريا يكفيه لسد حاجيات أسرته. تشي قسمات وجهه بالظروف الصعبة التي يعمل فيها. تترنح حياته بين العمل في الغابة و«لاشارج»، أي نقل قناطر الحبوب فوق كتفيه من شاحنة إلى أخرى.. صادفنا وجوده على حافة أحد المسالك، وهو ينتظر سيارة للنقل السري لنقله إلى أحد الحقول من أجل يوم عمل ينتهي بحصوله على 50 درهما.. «ظروف الحياة قاسية وفرص العمل نادرة، باستثناء المجال الفلاحي، رغم أنه ما يزال تقليديا»، يقول موحا وهو يحمل على كتفيه كيسا بلاستيكيا تبدو من داخله قارورة ماء وخبز، وعلى رأسه وضع «تارازة» (قبّعة تقليدية) لعلها تقيه من أشعة الشمس. قال هذا القروي إن السلطات تتحمّل الجزء الأكبر في معاناة الساكنة، فلو اهتموا بالمنطقة لَكانت هناك معامل ومصانع تُشغّل أبناء المنطقة وتنقذ العديد من الأسر من حياة الفقر والعوز. نجد لوضعية موحا أمثلة كثيرة في الجماعة والقرى التابعة لها. الكثير من شباب المنطقة، ورغم استكمالهم دراساتهم حتى حصولهم على البكالوريا، فإن ضعف مدخول أسرهم جعل الكثيرين منهم يوقفون مشوار دراستهم في سبت آيت رحو، ليدخلوا عالم العطالة في منطقة تبدو فرص الشغل فيها نادرة كما المياه. وتأسف نور الدين، الحاصل على شهادة البكالوريا في شعبة الآداب، على وضعه الاقتصادي، الذي لم يسمح له بإكمال دراسته وتحقيق حلمه في أن يصبح أستاذا للّغة الإنجليزية. اغرورقت عيناه عندما أعاد نسج خيوط حكايته مع منحة الدراسة، حيث تقدّم بطلب في الموضوع، آملا أن يحصل على منحة تغطّي بعضا من حاجياته التعليمية، لكنه فوجئ بعدم تضمين اسمه في لائحة المستفيدين، ليصبح حلم نور الدين مؤجلا ولو إلى حين.. «كيفاش يمكنْ لي نْخدم فْالفلاحة أو لاشارج وأنا كنعرف غير القراية»، يجيب نور الدين لدى سؤاله عن العمل الذي يمارسه الآن، بعد أن لم يستطع استكمال دراسته العليا. يصبّ نور الدين جامَ غضبه على المسؤولين الذين لم يأخذوا بعين الاعتبار وضعه الاجتماعي، وتسببوا في توقف «مشروع» دراسته في حدود البكالوريا، ليضطرّ، على مضض، إلى أن يدخل في عداد العاطلين عن العمل. حلم نورالدين في أن يصبح أستاذا للإنجليزية أجّله الفقر إلى حين، وفي نفس دائرة الفقر، التقينا عددا من تلاميذ المنطقة، الذين يحذوهم أمل كبير في أن تتغير الأمور في جماعتهم القروية نحو الأفضل، حتى يتمكّنوا من استكمال دراساتهم العليا وتحقيق أحلامهم «المشروعة». لا تريد أمينة سوى أن تصبح طبيبة متخصصة في أمراض الأطفال، لعلّها تعود يوما لعلاج أبناء قريتها.. ولا يحلم بنعيسى في شيء أكثرَ من أن يصبح محاميا يدافع عن المظلومين.. أما عائلات هؤلاء التلاميذ فلا «تحلم» إلا أن يتغير الحال نحو الأفضل وأن ينجليّ ليل جماعة «سبت ايت رحو» ببزوغ شمس التنمية الحقيقية وأن تصبح معاناة الساكنة حكاية تروى للأحفاد في مغرب متضامن، لا يعترف بمقولة «المغرب غير النافع».