أعادت بعض التسريبات الصحفية حول تعويضات بعض كبار موظفي الدولة قضية ما صار يصطلح عليه ب«الصناديق السوداء» إلى واجهة النقاش السياسي من جديد بعدما ظل الموضوع حبيس أدراج الوزارات والمؤسسات العمومية دون أن يجرؤ أحد على طرقه. بيد أن السجال السياسي، الذي احتد بين الأغلبية والمعارضة داخل قبة البرلمان، فجر هذا الموضوع وحوله إلى موضوع للرأي العام. آخر فصول هذا السجال المحتدم أشعله عبد العزيز أفتاتي، البرلماني المثير للجدل عن حزب العدالة والتنمية، حين اتهم صلاح الدين مزوار، الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار، بالاستفادة من مبالغ مالية خارج القانون. تصريحات أفتاتي لم تكن سوى القطرة التي أفاضت الكأس، بل كانت مقدمة لنقاش من نوع آخر يتمثل في مدى قانونية الصناديق الخاصة، التي توضع تحت تصرف الوزراء ومدراء المؤسسات العمومية، قبل أن يتحول النقاش في لحظة معينة إلى مزايدات سياسية بين فرقاء المشهد السياسي المغربي. وإذا كان أفتاتي قد لوح فقط بوجود ملفات سوداء تثوي بين ثنايا هذه الصناديق، فإن بعض جمعيات المجتمع المدني تحدثت عن مبالغ مهولة تستفيد منها هذه الصناديق، والمقدرة بحسب بعض الجمعيات بأكثر من 50 مليار سنتيم، وهو مبلغ كبير يمكن استغلاله في قطاعات اجتماعية ما تزال تعاني من الهشاشة. أرقام جمعيات المجتمع المدني، وإن كانت تبدو مبالغا فيها على حد تعبير عبد السلام أبو درار، فإنها تدق ناقوس الخطر حول المخاطر البالغة لهذه الصناديق. ولئن كان موضوع الصناديق الخاصة أو السوداء قد اتخذ منحى سياسيا بعيدا عن إنجاز دراسات ترصد انعكاساتها السلبية على الاقتصاد المغربي، فإن المجلس الاجتماعي والاقتصادي بات مطالبا، أكثر من أي وقت مضى، بضرورة إنجاز دراسة علمية دقيقة تطرح بعض البدائل الأخرى التي بإمكانها أن تعوض هذه الصناديق. وحسب بعض المتتبعين، فإن المؤسسة التشريعية ستكون ملزمة بالنظر في هذا الموضوع، لتحديد المخارج القانونية لوضع حد للنزيف الذي تسببه للاقتصاد المغربي. وبمنأى عن الحسابات السياسية، التي تحكمت في تحريك السجال حول هذا الموضوع بالذات، فإن جمعيات المجتمع المدني المهتمة بموضوع حماية المال العام رأت في مثل هذا النقاش مهاترات سياسية وتبتعد كثيرا عن جوهر المشكل الذي ينبغي طرحه. في هذا الصدد، يؤكد محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، أن موضوع الصناديق الخاصة أو الصناديق السوداء غير مؤطر بأي قانون يحدد كيفية التصرف فيها، وهي صناديق توضع تحت تصرف الوزراء تحت ذريعة «تغطية مصاريف الضيوف والزوار. ولذلك ينبغي أن تكون جميع الأمور في إطار قانوني شفاف وواضح وبعيد عن التصرف المبالغ فيه. ويرى المسكاوي في نفس الوقت أن وضع هذا الإطار القانوني يبتغي في المقام الأول «تقنين هذه المصاريف حتى لا يتم توظيفها لأغراض شخصية محضة كما حدث في بعض الحالات». لكن المسكاوي يستدرك قائلا : «يجب أن تخضع الصناديق السوداء لنفس القوانين التي تسري على بعض صناديق الحسابات الخصوصية، التي يؤطرها قانون المالية». ويؤاخذ المسكاوي الحكومات المتعاقبة على عدم أخذ هذا الموضوع بالجدية التي يقتضيها، والدليل على ذلك، يستطرد المسكاوي، أن جمعيات حماية المال العام طالبت غير ما مرة بوضع وعاء يقنن وينهي الجدل المثار حول الموضوع»، مبرزا أن «الشبكة المغربية لحماية المال العام كانت قد طالبت في مرات سابقة بالتقليص من عدد هذه الصناديق أو حبسها بشكل نهائي. في نفس السياق، يؤكد عبد السلام أبو درار، رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، أن «النقاش الذي يروج في هذه الفترة نقاش مغلوط من أساسه، حيث يقع الخلط بين كل الصناديق، والحال أنه ينبغي التمييز بين نوعين من الصناديق». الصناديق الأولى، حسب أبو درار، تتمثل في صناديق عادية تخضع لنفس مساطر ميزانيات الدولة، كما هو حال الصندوق الخاص بصيانة الطرق». وهذا لا يعني، يستدرك أبو درار، في تصريح للجريدة، أنه ليست هناك صناديق سوداء تستفيد من إيرادات نقدية توضع رهن إشارة بعض المؤسسات الاجتماعية، التي يجب ضبطها ووضعها في إطارها القانوني حتى يتم وضع حد لكل الأخبار الرائجة حول وجود ممارسات غير قانونية في هذه الصناديق». وختم أبو درار تصريحه بأن هيئة الوقاية من الرشوة تفكر جديا في إنجاز دراسة حول هذا الموضوع لتواكب النقاشات السياسية التي أثيرت مؤخرا.