يوم الأربعاء الماضي توفي الفيلسوف الفرنسي روجي غارودي عن سن المائة إلا سنة واحدة، وجاء نعيه بعد اختفاء طويل عن الساحة السياسية والفكرية والثقافية في فرنسا والعالم، ظل يقاسيه في عزلته منذ فترة طويلة بسبب كتابه ذائع الصيت «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» الذي نشره عام 1996 وشكك فيه في الرواية اليهودية والغربية «الرسمية» حول محرقة اليهود ورقم الستة ملايين الذين تم إحراقهم في أفران النازية. وقد أثار الكتاب وقت صدوره دويا هائلا في فرنسا وعموم أوروبا وحتى في العالم العربي، الذي تهافت على الترجمة العربية. ولم يكن السبب فقط هو ما صرح به غارودي في الكتاب، ذلك أن قائمة التشكيكيين في المحرقة طويلة، بقدر ما كان السبب أن ذلك التشكيك صدر هذه المرة عن أهم فيلسوف في فرنسا له جمهور عريض ينصت إليه، وفوق ذلك لديه سمعة واسعة في العالم العربي والإسلامي منذ إعلانه دخول الإسلام عام 1982. ولهذين السببين كان كتابه بمثابة قنبلة انفجرت في فرنسا وطارت شظاياها إلى أكثر من مكان، وسرعان ما حوكم الرجل بمقتضى قانون «غيسو»، الذي ينص على معاقبة إنكار المحرقة اليهودية، والذي لا زال واحدا من العلامات الباقية عن عقلية محاكم التفتيش في أوروبا المسيحية خلال القرون الوسطى، تحاول فرنسا اليوم إيجاد قانون شبيه له لمعاقبة إنكار مذابح الأرمن على يد الأتراك. نشأ غارودي في أسرة بروتستانتية، لكنه تخلى عن الإيمان الديني عندما تعرف على الماركسية في وقت مبكر، ومنذ ذلك الوقت ارتبط اسمه بالحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان أحد كبار منظريه، خصوصا بعد رحيل مثقفيه البارزين أمثال الشاعر والروائي لويس أراغون. بيد أن نداء الدين ظل يطن في وجدانه طيلة مرحلة اعتناقه الماركسية، وهو ما جعله ينحاز إلى المثالية الاشتراكية ويرفض الماركسية الجامدة والصرامة النظرية ويسعى من ثمة إلى المصالحة بين الدين والماركسية من خلال الأخلاق، أي أنه أراد أن يعيد إلى الماركسية ما طردته منذ نشأتها من حظيرتها، وهو الإيمان الديني، وكان هذا واحدا من الأسباب التي خلقت الصدام المؤدي إلى الطلاق بينه وبين الحزب الشيوعي عام 1970، سنتين بعد انتفاضة الطلاب التي كانت عاملا محفزا لغارودي على القيام بعملية مراجعة. بعد ذلك تحول غارودي إلى الكاثوليكية، وقضى مرحلة من الحيرة الفكرية، التي تذكر بتجربة أبي حامد الغزالي وهو ينتقل من الفلسفة إلى التصوف. وفي هذه المرحلة نشر كتابه «البديل.. تغيير العالم والحياة» (1972)، الذي بدأت فيه أولى بذور التفكير في الإسلام، لأن غارودي حاول فيه أن يقدم رؤية أخلاقية للتغيير عبر المزاوجة بين الأخلاق المسيحية والأخلاق الإسلامية، خصوصا التصوف، دون أن يتخلى عن الماركسية نهائيا. وعكس ما يعتقده البعض، فقد تعرف المغاربة على غارودي عقودا طويلة قبل صدور كتابه عن السياسة الإسرائيلية. فقبل أشهر قليلة من رحيله كتب العلامة علال الفاسي مقالا مطولا يرد فيه على كتاب «البديل» (يونيو 1973) تحت عنوان «بديل البديل» نشر في كتيب في السنة التالية بعد أسابيع على رحيله. وقد ناقش علال الفاسي الأفكار الواردة في الكتاب وتوقف عند إعجاب غارودي بما أسماه «الأخلاقية الجديدة في الصين» بسبب قطع النموذج الاشتراكي الصيني مع حضارة روسيا والغرب معا، المؤسسين على الحضارة المادية، وتوقف عند تساؤلاته عن «الغائية الإنسانية»، وأبدى إشادته بالخلاصة التي خرج بها غارودي في نهاية كتابه، وهي أن «الاشتراكية والحرية غير الممنوحين من الخارج والمنتزعين من قبل الشعب انتزاعا تقتضيان أن يترافق تغيير البنى بتغيير الضمائر»، ثم يذكر علال الآية الكريمة «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، موضحا أن النفس هنا تعني الضمير، ويقول: «ومهما تكن مقاصدنا مختلفة مع جارودي فالتغيير في الضمير شيء لا بد منه لكل ثورة وبناء». وفي آخر ذلك المقال الطويل يكتب علال «لقد وجدت في(البديل) أفكارا كثيرة تتفق مع ما أعتقد أن الوطنيين المغاربة، ولا سيما الاستقلاليين منهم، يدركونه وينادون به، ولعل في الطريق الثالث الذي نسميه التعادلية ما يمكن أن يكون البديل عن كل ما لا يتفق مع الإيمان ومع الكتلة الجديدة التي تعمل للديمقراطية الواقعية». وكانت فراسة علال الفاسي في مكانها، إذ لم تنقض سوى بضع سنوات حتى أعلن غارودي اعتناقه الإسلام عام 1982، واختير عضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد في رابطة العالم الإسلامي، وأصبح رمزا لدى المسلمين ونموذجا لانتصار الإسلام على الغرب. غير أنه بمثل ما كان قد اختار الجانب المثالي من الماركسية اختار بعد الثمانينيات الجانب «المثالي» في الإسلام إن صح التعبير وهو التصوف، طارحا عنه الفقه، وهو ما أسقطه بعد ذلك في عدة مواقف جرت عليه انتقادات واسعة في العالم الإسلامي، بسبب ذلك الفهم الخاطئ للانفصال بين الفقه والتصوف في الإسلام، الذي أدى به إلى أفكار»باطنية» مثل قوله إن الصلاة مفروضة ثلاث مرات في اليوم فقط بدل خمسة، مغلبا المعنى اللغوي والروحي للصلاة على معناها الفقهي، ونفس الأمر فيما يتعلق بموقفه من الصيام، الذي اعتبر أنه لا يعني الانقطاع عن الأكل والشرب، بل هو معانيه الروحية فحسب. وكل هذه الأفكار كان من الواضح أنها نتجت عن فهم مغلوط لكتابات بعض الصوفية أمثال ابن عربي سببت لديه ارتجاجا. وأثارت تلك المواقف، التي نشرت في النصف الثاني من التسعينيات في حوار مع «المجلة» السعودية، زوبعة كبيرة، إذ أصدر المفتي العام للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز فتوى يعتبر فيها غارودي ملحدا وكافرا وليس مرتدا، لأنه رأى أنه لم يكن على الإسلام، ولكن كان يخفي في صدره قناعات أخرى. وفي السنة التي صدر فيها كتابه عن السياسة الإسرائيلية (1996) لقي الكتاب رواجا كبيرا في المغرب، وقام المرحوم عبد الرزاق المروري بالترويج له على نطاق واسع، وشاء القدر أن يتوفى المروري وزوجته رحمهما الله في حادثة سير في الجنوب وهما في واحدة من تلك الجولات، وحاول البعض آنذاك الربط بين الحادث وبين الكتاب، معتقدين بأن الحادث كان مدبرا، وأن الترويج للكتاب ربما كان وراء المؤامرة.