يتحدث الكاتب والناقد محمد برادة في حواره مع «المساء» عن المثقف المغربي ومدى صدقية القول حول عزلته، وخاصة في ظل حكومة يقودها «إسلاميون». كما أنه يلاحظ أن الإسلاميين في المغرب لا يمتلكون السلطة، فهم حزب من بين أحزاب لهم مسؤولية رئاسة الحكومة ضمن دستور يحدد المسؤوليات والسلط لمدة محددة، وقراراتهم معرضة للقبول والرفض. أما بخصوص واقع التعليم، فقال الأستاذ الجامعي إن تعثره له جذور تعود إلى ما بعد الاستقلال، حيث دخل المغرب في تجارب مرتجلة أدت إلى التخبط والاضطراب، مؤكدا أنه أصبح من الضروري كتابة تشخيص تاريخي لفشل التعليم بالمغرب، وفشَل مشاريع الإصلاح العديدة. وأوضح برادة أن التصنيف الذي نعانيه اليوم في هذا المجال ليس مجرد صدفة وإنما هو مخطط له لأن «الحاكمين والمتحالفين معهم خططوا لكي يصبح أبناؤهم هم الوارتون للسلطة والامتيازات عن طريق التعليم ومستواه ونوعيته». - هناك من يرى بأن عزلة المثقف المغربي زادت بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة. كيف تحلل وضعيته في مغرب اليوم؟ وأفق مستقبله؟ يجب أولا أن ندقّق التعبير ومحتوى السؤال: ذلك أن المثقف المغربي لا يوجد في عزلة، بل هو دائما حاضر من خلال إنتاج خطابات المجتمع، وتحليل التحولات والصراعات. من يتولى التعبير عن المجتمع قديما وحديثا؟ أليس هم المثقفون على اختلاف اتجاهاتهم واختصاصاتهم؟ وهل يمكن أن نتصور مجتمعا يعيش في صمت مطبق بدون خطاب يفصح عن وجوده ويلتقط أسئلته؟ المثقفون لا يحكمون وإنما يفكرون ويتخذون مواقف وتأثيرهم يمر عبر قنوات متعددة. وإذا كان هذا التأثير غير واضح، فالخلل يعود إلى العلاقة بين السياسة والثقافة ووسائط الحوار... ثانيا، الإسلاميون في المغرب لا يمتلكون السلطة، فهم حزب من بين أحزاب، لهم مسؤولية رئاسة الحكومة ضمن دستور يحدد المسؤوليات والسلط لمدة محددة، وقراراتهم معرضة للقبول والرفض، والسلطة العليا ليست بيدهم.إذن كيف يتخوف منهم المثقفون؟ لكن علينا أن نميز بين السياسي والثقافي. ذلك أن الأول، كيفما كان اتجاهه، يظل مشدودا إلى الظرفي والفعل المباشر، بينما يندرج عمل المثقف وإنتاجه في المدى الأبعد، لأن الثقافة تحتاج في وجودها وتحولاتها إلى أمد أطول، وإلى جهد أكبر. على ضوء ذلك، لا أرى أن هناك ما يدعو إلى التخوف، خاصة أن البديل الثقافي، الذي قد يقترحه الأصوليون أو المتزمتون، هو بديل ينتمي إلى الماضي، ولا يتفاعل مع أسئلة المجتمع الراهنة، المتصلة بالثورة العلمية والتكنولوجية وتدبير شؤون المجتمع على أساس من العقل والموضوعية.لأجل ذلك أقول إن الثقافة والمثقف لا يعانيان من العزلة، وإنما هما مطالبان بإعادة التحليل والتقويم، والتصدي لأسئلة المستقبل ولما تطرحه الساحة الكونية من حلول ومقترحات. ومثل هذا الاختيار والتوجه لا يمكن لخطابٍ ماضويّ أن يعطله. وكل تضييق على حرية الفكر والإبداع مآله الفشل في عالم اليوم القادر على تكسير الرقابات وأنواع الحِجْر المختلفة. - بعد تجربة طويلة مع الكتابة والتدريس كيف تنظر إلى واقع التعليم في المغرب؟ وكيف يمكن انتشاله من واقعه المزري؟ تعثُّر التعليم في المغرب له جذور تعود إلى ما بعد الاستقلال، حيث دخلنا في تجارب مرتجلة أدت إلى التخبط والاضطراب، وأصبح من الضروري كتابة تشخيص تاريخي لفشل التعليم بالمغرب، وفشَل مشاريع الإصلاح العديدة التي آلت، طوال أكثر من 30 سنة، إلى الفشل بدورها. وما يسترعي الانتباه في هذه المسيرة التعليمية هو أنه ابتداء من سبعينيات القرن الماضي ظهرت قرارات وإجراءات ترمي إلى فرض نوع من «التصنيف الطبقي» انطلاقا من سياسة التعليم. وهذا ما جعلنا نلاحظ اللجوء إلى مباريات الدخول في بعض الكليات، وإلى تهافت أبناء الأغنياء على مدارس البعثة الفرنسية ثم الأمريكية، وفتح أبواب جامعة الأخويْن أمام من يستطيعون دفع تكاليفها المرتفعة؛أي أن المدارس الحكومية والجامعات فقدت مصداقيتها، وتدَنّى مستواها، وقُلّصَتْ ميزانيتها، ليظل طريق التعليم المعقول مفتوحا فقط أمام أبناء القادرين على تكاليف المدارس الخاصة والجامعات الأجنبية في الخارج... وهذا التصنيف الذي نُعاينه اليوم ليس مجرد صدفة في نظري لأن الحاكمين والمتحالفين معهم خططوا لكي يصبح أبناؤهم هم الوارثين للسلطة والامتيازات عن طريق التعليم ومستواه ونوعيته. يضاف إلى ذلك إنشاء «التعليم الأصلي» أو الأصيل، ذي التوجه الديني الذي زاد في توسيع خارطة التصنيف الطبقي، وأسهم في تعتيم عقلية التلاميذ والطلبة «الأصيليين»، وهيأهم لاستقبال إيديولوجيات أصولية، متطرفة. لا مناص، إذن، عندما نفكر في أزمة التعليم من البدء بتجلية هذه الجوانب المسكوت عنها في تاريخ «إصلاح» التعليم. الآن، هناك اقتناع بأن التعليم الجيد هو الشرط الأولي لتحقيق التنمية المستدامة والولوج إلى عصر التقنيات التواصلية والرقمية، وهو شعور جيد شريطة ألا نسير في نفس الطريق التي سلكناها لإصلاح التعليم، أي تكليف نفس اللجنة التي استمرت عدة عقود تبحث عن إصلاح مفقود، وكلما فشل مشروع من مشاريعها أعادوا تكليفها من جديد كأنها وحدها التي تملك أسرار الإصلاح المنشود !!! أنا شخصيا لا أتوفر على وصفة جاهزة لإخراج التعليم من مأزقه، ولكنني أرى أن فتح الحوار بين من لهم علاقة بالتعليم، انطلاقا من أسئلة جدية تُراعي مقتضيات العصر وحاجيات الاقتصاد والقيم الضرورية للمواطنة، هو الخطوة الأولى لتحسيس الشعب بالطابع الاستعجالي لإصلاح التعليم. لا يمكن إصلاح التعليم بين جدران مغلقة ودون مراجعة التصنيف الطبقي الضمني الذي أدتْ إليه سياسة التعليم منذ الاستقلال. -كيف تنظر إلى واقع الثقافة في المغرب؟ وهل ترى أن هناك بارقة ما للتغيير؟ أظن أن الثقافة المغربية، بالمعنى الواسع، هي دائما في دوّامة التغيير نتيجة لحتمية التفاعل مع ثقافات العالم والأسئلة المتناسلة التي تنبع من المجتمع. لكن عمق المشكل يتمثل في الترويج للثقافة الجدية وتوصيلها إلى أكبر جمهور من خلال الحوار والجدال. وكما نعلم، فثقافتنا وثقافة العالم خاضعتان أيضا لتأثيرات ثقافة التسلية والإبداعات السطحية. وهو سياق يفرض التمحيص النقدي ومراجعة مضامين الإنتاج الثقافي والفني، بترابط مع أسئلة الواقع الملموس. وفي العقود الأخيرة وقعَ التنبيه إلى أهمية دور الثقافة في التنمية، لكن الآراء ظلت موزعة بشأن هذا الدور لأن هناك من رأى بأن الأسبقية هي للاقتصاد، وبأن الثقافة يجب أن تخضع لمقتضيات السوق والتسليع والربحية؛ وهناك من اعتبر الثقافة ضمانة للوصول إلى حد أدنى من القيم الأخلاقية والذوقية والجمالية، تعطي حياة المواطن معنى داخل هذا العالم الذي يفقد أكثر فأكثر دلالته الإنسانية. لأجل ذلك علينا ألا ندعو إلى التنمية دون تحديد أهدافها المادية والروحية. وأرى في نهاية التحليل أن الثقافة تكتسب حيويتها وانطلاقتها من عمق الأفق الذي يرسمه المجتمع لها، آخذا في الاعتبار القيم الكونية والحرص على إقامة حوار مثمر بين الجوانب المشرقة من التراث وثقافة المستقبل. بتعبير آخر، دورُ الثقافة في التنمية يتصل بالمضمون الذي نريد أن يتوفر عليه المواطن: هل المقصود ضمان الخبز وَ«العَلَف» فقط أم بِناء مواطن يفكر ويتذوق الفنون ويؤمن بمبادئ ومثل إنسانية تسند رحلته في الحياة؟ - وماذا عن حضور الثقافة في الإعلام؟ كيف تقيمه؟ وهل يجب إلغاؤها كما يذهب بعض مسؤوليها؟ ما يقدم في وسائط الإعلام بأنواعها المختلفة يعكس مستوى المسؤولين عن هذه الوسائط، ويقدم في الآن نفسه صورة عن غياب تصور ناضج لدى الدولة. من هنا نلاحظ توجه وسائطنا الإعلامية إلى استيراد البرامج والأفلام دون تمييز، وإعطاء الأسبقية للتسلية البليدة والفُرجة الرخيصة. هناك غيابُ الوعي بأهمية هذه الوسائط ودورها في تثقيف الناس والارتقاء بذوقهم وشحذ فكرهم النقدي. وبالنسبة إلى الإعلام المكتوب أجد أن الجرائد والمجلات تحاول الاهتمام بالثقافة، إلا أنه اهتمام يظل مشدودا إلى الماضي ويفتقر إلى تبريز توجُّهات الثقافة الحديثة التي تواكب تبدلات حياة المجتمعات. يضاف إلى ذلك أن الجوانب التقنية والإخراجية لا ترتقي إلى ما تقدمه أسواق الثقافة العالمية. أنا أتصور أن الإعلام المكتوب يستطيع أن يضطلع بدور أكبر في مجال تحريك الأفكار، ودفع القراء إلى أن يكونوا أكثر تفاعلا مع ما يحدث داخل بلادهم وخارجها، لأن المادة المكتوبة تتيح للمتلقي أن يعيد القراءة والتفكير وتجعله قادرا على تشغيل عقله، والاحتكام إلى حريته في اختيار ما يروقه ويستجيب لرغبته الفكرية والشعورية. - كثيرا ما كان للسياسة حضور في ما تبدع، لكنك كثيرا ما لعبت معها لعبة النسيان، لماذا؟ هل هذا راجع إلى اعتقادك بأن «همّ السياسة» همّ زائل وماكر، ويجب محوه من الذاكرة؟ أم ماذا؟ أريد أن أوضح أنني لم «ألعب» قط مع السياسة لعبة النسيان؛لذلك لا بدّ من فهم عنوان روايتي فهما دقيقا يتصل بالدلالة المعقدة التي يشير إليها العنوان. أنا أقصد بلعبة النسيان ذلك الموقف الذي يلجأ إليه الإنسان عندما تحاصره أسئلة وجودية وميتافيزيقية ولا يجد سوى النسيان المؤقت ليجدد ذاكرته وتفكيره، ثم يستأنف رحلة الحياة. بتعبير آخر، النسيان جزء من الذاكرة التي لا تستطيع أن تستحضر كل ما نعيشه، ومن ثم حاجتها إلى النسيان... أما علاقتي بالسياسة فهي قديمة ومتواصلة، إلا أن هذه العلاقة تتغير حسب السياق والعُمر والوقت المتاح. وأنا من الجيل الذي ارتاد مجال النضال والتسيُّس في سنّ الحادية عشرة، أي منذ 1949، وهي علاقة مستمرة، لكن في شكل آخر، لا يقوم على النضال داخل حزب، وإنما من خلال متابعة قضايا البلاد والتفكير في إشكاليات الحاضر والمستقبل، ومتابعة الكتابة والإبداع لتقديم رؤيتي إلى العالم.السياسة تشغل الجميع، سواء الذين مارسوها وأخطؤوا، أو الذين أخطؤوا لأنهم لم يمارسوها! لا مناص: السياسة بمعناها العميق شرط ضروري لاستكمال مقومات وجودنا وحريتنا. - لماذا بقيت الرواية المغربية، في رأيك، بعيدة عن السينما، ولم تغر المخرجين كما كان الحال مثلا مع روايات نجيب محفوظ في مصر؟ أظن أن الجفاء بين السينما والرواية المكتوبة عندنا يعود إلى عوامل ظرفية، أهمها أن المخرجين المغاربة أعطوا الأسبقية للخبرة العملية التي اكتسبوها من كتابة السيناريو، ثم وجدوا أن الاستمرار في كتابة السيناريو إلى جانب الإخراج والمونتاج وربما الملابس والديكور، يجعلهم يربحون أكثر. في المقابل لم يبذل الروائيون جهدا للدخول إلى عالم كتابة السيناريو، فظل هذا التباعد قائما. الآن، وبعد الأشواط المقطوعة، تبين أن المخرجين الذين يصرون على كتابة أفلامهم إنما غالبا ما يكررون أنفسهم، ولذلك بدؤوا يلتفتون إلى اقتباس بعض الروايات ليجددوا متخيل السينما، ويوسعوا فضاءها. وأظن أن الشروط بدأت تتوافر لكي يتخذ المخرجون من الروايات المغربية المتميزة مادة لأفلامهم، وهو أمر يتطلب تنظيم حوارات منتظمة بين رجال الأدب ورجال السينما، خاصة في هذا العصر الذي يتميز بتفاعل كل فنون الإبداع وأشكاله. - في دول الخليج نرى أن هناك دعما للثقافة من خلال «خلق الجوائز»، وتعويض الكتاب، وإصدار مجلات متخصصة، وروايات مصاحبة، إلى درجة أن هذا الوضع أغرى كثيرا من كتاب المغرب وجعلهم يهجّرون كتاباتهم نحوها. هل يمكن أن نرى يوما مثل هذا الوضع في المغرب؟ ظاهرة الجوائز الإبداعية والفكرية التي تتبناها مؤسسات خاصة ورسمية في معظم دول الخليج إيجابية ولا شك، لأن المبدعين والمفكرين والكتاب في العالم العربي لا يستطيعون أن يعيشوا من أقلامهم، رغم أنهم ينتمون إلى فضاء يسكنه 300 مليون نسمة؛ لكن غياب سياسة ثقافية عربية تستثمر هذه السوق، ووجود خلافات سياسية بين معظم دول هذا الفضاء، يؤديان إلى عرقلة الاستفادة من اللغة المشتركة، ومن الإنتاجات الفنية والأدبية المطلوبة في السوق العربية الواسعة. لذلك فإن ما تقوم به بعض دول الخليج من شأنه أن يفتح نوافذ أمام المبدعين في المغرب وفي بقية الأقطار العربية، خاصة أن معظم هذه الجوائز لا تفرض شروطا تحد من حرية الكاتب والمبدع. وأود أن أشير أيضا إلى مشروع الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق AFAQ) الذي يوجد مقره ببيروت، والذي يرأسه د.غسان سلامة، وأنا عضو بمجلسه التنفيذي، وهو صندوق يدعم مشاريع الإنتاج في الأدب والسينما والموسيقى والمسرح، ويتلقى تمويله من مؤسسات اقتصادية وتنموية أجنبية وعربية، من دون شروط أو توجيهات. لكن للأسف، تظل مساهمات الأغنياء العرب في تمويل مثل هذه المشاريع الجيدة جد محدودة. وبالنسبة إلى المغرب، نحن بحاجة إلى جوائز خاصةٍ، يمولها الأثرياء المتنورون ومُحبو الثقافة ليتمكن الإبداع من تدعيم مساره. وأغتنم الفرصة لأوجه نداء إلى أغنيائنا في المغرب ليتبرعوا لصندوق «آفاق» الذي يستفيد منه مبدعون مغاربة، وتغيب عنه مساهمة أثريائنا المُتنورين. - لوحظ مؤخرا انتعاش في مجال كتابة القصة، في وقت أصبحت الرواية في «غرفة الانتظار». ما هي الأسباب التي دفعت إلى انتعاش القصة؟ لا يمكن القول بأن الرواية المغربية توجد في «غرفة الانتظار» راهنا، بل هناك تزايد في كمية إنتاجها، وظهور أسماء جديدة، لكن الإشكال يتمثل في التوزيع والترويج وإيصال الإنتاج إلى جمهوره المحتمل. وأرى أيضا أن الصفحات الثقافية للصحف لا تُتابع هذا الإنتاج الروائي، ولا تكلف نفسها عناء قراءته وإبداء الرأي في قيمته. وهذا ما ألاحظه في حواراتي مع الصحفيين المغاربة، إذ يريدون أن تلخص لهم ما كتَبتَه وتجيب عن السؤال الفضفاض، دون أن يكون للصحفيّ المحاوِر رأيٌ في الإنتاج المنشور. المبدعون ينتظرون من الصحافة دوراً أكثر جدية وموضوعية. أما بالنسبة إلى ازدهار القصة القصيرة، فهو راجع، في نظري، إلى عامليْن: الأول يتمثل في قيام قاصّين ونقاد بتكوين مجموعات تهتم بالبحث في تاريخ القصة وأشكالها واتجاهاتها عربيا وعالميا، وهو ما ساعد على الترويج للقصة واستجمع جمهورَها المحتمل. وهو دور مهم لأنه لا يكفي، في بلد مثل بلدنا، أن تكتب وتعتبر مهمتك منتهية؛لا بُد أن يسهم الكاتب في توصيل إنتاجه إلى القراء... والعامل الثاني هو أن القصة القصيرة تبدو، من حيث الشكل، مناسبة أكثر لالتقاط اللحظات المتشابكة، الغامضة، المتحولة، التي يمرّ منها المجتمع المغربي حاليا، والتي هي فترة انتقال وتبدل في كل المجالات. والقصة قادرة على التقاط هذه «اللحظات الهاربة»، التي تتَتالى وتتراكم لتبلور مرحلة تاريخية أوضح، لم نتَبيّن بعد جوهرها. - بعد كل الكم الذي كتبه المغاربة في مجالات متعددة، هل ترى أن المغرب تحرر من «مركزية المشرق» وتبعيته له، وقدرته على خلق شخصيته الثقافية الخاصة به؟ أم أنه لا يزال يعيش في شرنقة هذه الثقافة؟ من غير المناسب ولا المقنع أن ننطلق في تحليلنا لخارطة الثقافة العربية الشاسعة والمتنوعة من افتراض «مَْركزٍ» و«محيط» يقوم افتراضا على التفوق والتبعية، بل الأقرب إلى الموضوعية افتراض علاقة التنوع والتكامل وتبادل التأثير. وهي سمات توجد داخل هذا الفضاء العربي منذ أمد طويل. وبطبيعة الحال، لا تظل الثقافة ثابتة، محتفظة بمستوى واحد. إذ هناك فترات ازدهار وفترات ركود، ولحظاتٌ للتحول ضمن فضاء ليس بدوره ثابتا نتيجة للمثاقفة العالمية وتجدّد المبدعين والمفكرين. صحيح أنه، من الناحية التاريخية، يوجد تفاوت فيما يتعلق بالاتصال بأوروبا وحضارتها والتوسع المديني وما يرافقه من تحديث، لكن كل ذلك لم يُلغ الخصوصية الثقافية لكل بلد عربي، رغم أنظمة الحكم الاستبدادية التي رفضت الاعتراف بالأقليات وقمعت تعبيراتها الثقافية واللغوية. أما الآن، فكل قطر عربي يأخذ مكانته وتحظى إنتاجاته بالتقييم والاعتبار. مع ذلك، هناك إشكاليات مشتركة، على الصعيد العربي، هي بحاجة إلى إعادة طرحها ومناقشتها على ضوء الانفجارات الشبابية المطالبة بالديمقراطية وحقوق المواطنة. وهو سياق يحتم على مجموع البلدان العربية أن تطرح كل الأسئلة المستقبلية بدون استثناء أو تأجيل. أفكر، مثلا، في إشكالية الدولة الدينية والدولة العلمانية ودورهما في بناء مجتمع قادر على أن ينخرط في سيرورة الثورة العلمية والتكنولوحية. مثل هذه الأسئلة هي التي توحد العالم العربي وتدفعه إلى مجاوزة الفشل الذي رافَق مشاريعه النهضوية منذ مطلع القرن العشرين.وأيضا في طليعة أسئلة النهضة المؤجلة: هل نستمر في الاحتكام إلى قوانين السماء والفكر الغيبي، وخرافة العادل المستبد؟ أم نستقرئ التاريخَ ونتعلم كيف نربط السياسة بمصالح البشر الذين يعيشون على الأرض ويهتدون بالعقل؟ - اعتمادا على ما راكمه الكتاب المغاربة، هل ترى أن الكتابة في المغرب تصير في طريق تغيير الواقع؟ أم أنها ليست سوى اجترار وتكرار؟ ليس من الثابت أن الكتابة الأدبية تغير الواقع لأن التغيير الملموس يتم من خلال أفعال تنجزها قوى اجتماعية تمتلك رؤية وتصورات تقدم ما هو أفضل. لكن يمكن أن تسهم الكتابة في تخليق وعي جديد، وبلورة طرائق في الإحساس والتفكير تسعف في تنوير قوى التغيير. على ضوء هذه الملاحظة لا يجوز القول بأن الكتابة الأدبية مجرد اجترار وتكرار، لأن حكمنا عليها يجب أن يعتمد على القراءة والتقييم القائم على التحليل. وأنا أرى أن هناك تقييما جزئيا للأدب المغربي لا يخلو من إيجابية، دون أن يغامر أحد بالقول بأن هذا الأدب هو الذي سيكون وراء التغيير. من ثم يجب ألا نُحمّل الأدب أكثر مما هو مهيأ له، وأن نأخذ النسبية في الاعتبار عند محاولة تقييم هذا الأدب الذي لم يتجاوز عمرُه خمسين سنة. - قبل السؤال الأخير هل ترى أن المجتمع يسير في سكة مجتمع حداثي؟ أم أنه لا يزال يدور في دائرة مفرغة لا تعرف بدايتها من نهايتها؟ أعتقد أنه لا مناص من تحديد محتوى «مجتمع حداثي» لأن هذا المصطلح لا يُحيلنا على دلالة واضحة ومضبوطة. وفي طليعة معضلات المصطلح أن نحدد من أي موقع نتكلم، وأي مرجعية نستند إليها، هل سبيلنا إلى الحداثة سيعتمد استيراد نموذج «جاهز» مثلما نستورد سيارة أو آلات؟ أم نريد حداثة تتبلور من خلال اقتران الفعل بالتفكير، وقراءة التاريخ من منظور نقدي؟ وما هو المستقبل الذي نريد تحقيقه استنادا إلى «الحداثة»؟ كثيرة هي الأسئلة الشائكة التي نواجهها ونحن نطرح السؤال بهذه الطريقة المسرفة في التعميم. وبالنسبة إلى الشقّ الثاني من السؤال، لا يمكن أن نقول عن المجتمع المغربي إنه يتخبط في دائرة مفرغة، لأنه حُكْم ينفي التاريخ، ويفترض جمود الوعي والفكر. لذلك يكون أقرب إلى الواقع أن نقول إن المغرب يعيش مرحلة مخاض وهو في طريقه إلى الديمقراطية والعدالة. وهذه المسيرة، منذ الاستقلال، تفرز عدة اختيارات، وتبلور الصراع بين قوى اجتماعية ذات توجهات متباينة، من بينها قوى تسعى إلى تحديد مضمون حداثة متكاملة العناصر، تشمل جميع المرافق والمجالات.إن التجربة التاريخية عندنا وعند مجتمعات أخرى أثبتت أنه لا يكفي أن نقول إن الحداثة متوفرة لدينا في الأدب والفنون وتحديث وسائل العيش لأن مثل هذه الحداثة تظل هشة، مهددة بالزوال ما دامت لا تستند على أسس اقتصادية وسياسية وفكرية، تؤثر في الذهنية والسلوك والتعاطي مع الحياة...ومثل هذه الأسس لم تتوافَر بعد، لكن ذلك لا يعني أن مجتمعنا يدور في حلقة مفرغة، وإنما يتلمس الطريق الصحيح للانتقال من الفكر الماضوي والأصولي والمخزني إلى مرحلة إعادة تنظيم المجتمع ديمقراطيا والانخراط في عالم المعرفة والعقلانية. وأرى أنه على ضوء ما يجري في العالم، وعلى ضوء ما عبر عنه ملايين الشباب في العالم العربي، لا مناص من أن يتولى الشباب تحديد مضمون الحداثة التي نحتاجها، ولا مناص من أن يضطلع هو بالدور الأساس في إنجاز هذا التغيير لأنه يملك وسائط المعرفة ويؤمن بأن لغة المستقبل أفضل من أساطير الماضي. - أخيرا، كيف تنظر إلى وضع المرأة في المغرب وأفقها القادم في ظل التحولات الحالية؟ وضعية المرأة في المغرب باعثة على التفاؤل لأن النضال النسائي، داخل الأحزاب وعبر الجمعيات، استطاع أن ينتزع مكتسبات على جانب كبير من الأهمية، سواء في المجال السياسي أو الاجتماعي. لكن بالنظر إلى «عراقة» مجتمعنا في الذكورية والبطريركية (سلطة الأب)، فإن المرأة ومعها الرجل الديمقراطي مُطالبان بمواصلة النضال والعمل لتحقيق المزيد من المساواة، وتحرير المرأة من أنواع الوصاية المختلفة. ذلك أن ذهنية «الرجل الذكوري» لا تتقبّل أن تمارس المرأة حريتها بوصفها كائنا عاقلا، ذكيا، من حقه أن يختار صيغة حياته، ومن ثمّ ذلك التعلق الأبدي بحقه في الوصاية على المرأة! غير أن الحديث عن المستقبل والتغيير هو دائما مرتبط، في التاريخ، بضرورة تحرير المرأة وإنصافها من ظلم الرجل وأنانيته.