قدم، في متحف بنك المغرب في الرباط، يوم الخميس الماضي، كتاب «نظرات على أعمال الجيلالي الغرباوي»، على هامش المعرض الذي يقام احتفاء بهذا الفنان، الذي يعد أحدّ رواد التحديث في الفن التشكيلي في المغرب. وقد توقف الناقد فريد الزاهي، في حفل التقديم، عند فرادة تجربة هذا الفنان، «المتشظي ومتعدد العوالم والتجارب الجمالية والإنسانية والذي أصّل للفن التجريدي والرمزي في المغرب وأثرى النتاج الفني الحداثي بشكل عام». وأشار الزاهي إلى أن هذا الكتاب، الذي يضم أعمالا فنية جديدة، من شأنه أن يُشكّل مرجعية للفن التشكيلي في المغرب، بالنظر إلى الأعمال الفنية الرائدة للراحل وللمقالات والمقاربات التي تحاور تجربته الإبداعية الفريدة. وأعلن الزاهي أنه «احتفاء بهذه الذاكرة والأيقونة الفنية الرائدة، تعمل الجهات الوصية اليوم على ترميم البيت الذي عاش فيه الراحل في بدايات حياته الفنية، وهو الشخصية المتعددة، التي آمنت على الدوام بالاختلاف والتعايش بين الديانات». «البحث عن النور لدي أمر جوهري. فالنور لا يخدعنا. إنه يغسل أعيننا، واللوحة المنيرة تنير بصرنا وبصيرتنا.. والتشكيل من غير نور أو التشكيل المثقفي ينجح دوما في خداع بصرنا وعلاقتنا بالعالم».. بهذه الرؤية الفنية، التي لخص بها الغرباوي مشروعه، يفتح القارئ عينه على دفة الكتاب ليغوص في مكونات التجربة الفنية للراحل الغرباوي، «القريب من الأرض، القريب من الروح»، من خلال أعمال متعددة مفتوحة على الدلالات والقراءات المختلفة، ومن خلال مقاربات فنية تتلفع بالعشق والشغف دون التفريط في الصرامة والمتعة النقدية. وأكد فريد الزاهي، المستشار الفني لبنك المغرب، أن «هذا المعرض يعتبر ثمرة مجهود وطموح يتجلى في إقامة معرض لأكثر الفنانين المغاربة استعصاء على التأريخ ولأول فنان مغربي قاد الفن المغربي من مرحلته البدائية إلى مرحلة الحداثة المعلنة». ووصف المتحدث الراحل الغرباوي ب«المؤسس» للفن الحديث بصفة خاصة والفن المغربي بصفة عامة، حيث فتح الآفاق لتجربة كان تلامذتها أكبر الفنانين المغاربة، أمثال محمد القاسمي وميلود الأبيض وفؤاد بلامين ومصطفى بوجمعاوي، مشيرا إلى أن الغرباوي، الذي مارس التشخيص، اختار عمدا تأسيس فن تجريدي باطني رمزي. ويذكر أن المعرض سيمتد إلى غاية 26 غشت المقبل، وسيُمكّن من الإحاطة بالزوايا المتعددة لفنان عُرف بعشقه الكبير لحرية الفكر والحركة وخياله اللا محدود، كما سيتيح الاطّلاع على أكثر من 80 من الأعمال الفنية، تتضمن رسومات ومنحوتات ورسومات على الزليج، إضافة إلى صور مرسومة وصور فوتوغرافية للفنان. كما يدخل المعرض، الأول من نوعه، والذي يعد بمثابة عودة إلى الماضي بهدف إثارة فضول الزائر ودفعه إلى سبر أغوار حياة هذا الفنان المغربي، ضمن سلسلة من المعارض الفنية التي ستمكن الجمهور من تكوين نظرة مكتملة على إبداعات كبار الفنانين المغاربة وتعريف الجمهور الناشئ على التقنيات التي استعملها الراحل الغرباوي في لوحاته، وكذا مكونات وآفاق هذه الأعمال، إضافة إلى تمازج الخطوط والألوان فيها. وتميز هذا المعرض، الذي يحظى بدعم مؤسسة «أونا» و«التجاري وفا بنك» و«الشركة العامة للأبناك»، بعرض شريط وثائقي حول أعمال الجيلالي الغرباوي، مرفوقا بشهادات لمجموعة من المثقفين والفنانين والمبدعين حول هذه الشخصية الفنية المغربية التي افتقدتها الساحة الفنية. ويذكر أن الراحل الجيلالي الغرباوي (1930 -1971) ازداد في جرف الملحة، قرب سيدي قاسم، وعشق الفن منذ وقت مبكر، حيث درس ما بين 1952 و1958 في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس وفي أكاديمية جوليان، كما يعد أول فنان تشكيلي مغربي يختار التعبير التصويري غير التشخيصي، وأحد رواد الفن المعاصر في المغرب. وقد تيتم الغرباوي وعمره عشر سنوات، فتكفل بتربيته عمه. بعد ذلك، التحق بميتم، حيث تعلّم مهنة «رصاص». تلقى تعليمه الثانوي في مدينة فاس، ومارس حرفة بيع الصحف، وفي المساء كان يتلقى دروسا في الصباغة الفنية داخل أكاديمية الفنون في فاس. ستعرف سنة 1952 تحولا في حياته الفنية، إذ بفضل أحمد الصفريوي سيتمكن الغرباوي من الحصول على منحة للتكوين في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس. لكنه سيعود، بعد ذلك إلى المغرب، نتيجة لحالة عصاب كانت تنتابه بين الفينة والأخرى، وخلالها كان يحطم كل شيء.. ومن بينها أعماله الفنية.. كما سيقدم على محاولة انتحار.. وعلى محاولة أخرى للانتحار، باءت بالفشل، حين ألقى بنفسه في نهر أبي رقراق. في الرباط، سيلتحق الغرباوي بكوكبة من المثقفين والفنانين: أحمد الصفريوي، كمال الزبدي، إدريس الجائي، فريد بنمبارك، إدريس كريم، والفنانين بلكاهية، بنعلال ومحمد إدريسي. كما حصل على منحة دراسية ثانية في أكاديمية الفنون الجميلة في روما. سينتقل الغرباوي إلى باريس وسيلتحق بجماعة اللا شكلانيين، ثم يعود إلى الرباط ويدخل مستشفى مولاي يوسف للخضوع لعلاجات كهربية. ثم كان السفر إلى باريس، فأمستردام. وفي بداية السبعينيات، سيستقر في الرباط داخل فندق «صومعة حسان»، حيث أنجز العديد من اللوحات لفائدة جامع اللوحات السرغيني. وستعرف سنة 1971 عودة الفنان الجيلالي الغرباوي إلى باريس وإقامته في بيت الناقد الفني بيير جوديبير. وأضحى إدمانه المخدرات والكحول السمة الرئيسية في حياته اليومية. وفي نفس السنة، سيُعثَر على الفنان التشكيلي الغرباوي ميتا على أحد المقاعد العمومية ب«شان دو مارس». ليُنقَل جثمانه إلى المغرب، حيث تم دفنه في مدينة فاس.