هربن من الفقر والحاجة بحثا عن الاستقرار والرغبة في تحقيق أحلامٍ، سرعان ما تحولت إلى كوابيس تطاردهن في الداخل والخارج.. قطعن البحار أملا في تحقيق استقلالية الذات وإيجاد فرص عمل توفر لهن مدخولا يعيلهن ويعيل أسرهن، ليخرجهن من عتبة الفقر لكن.. الحلم شيء والواقع شيء آخر. بعدما وجدن أنفسهن بدون عمل وبدون وثائق الإقامة في الديار الإيطالية، كان لا بد لهن من إيجاد حلول استعجالية، ولو تطلّبَ الأمر بيع كرامتهن بأرخص الأثمان، لأن العودة إلى المغرب بالنسبة إليهن أضحت مستحيلة، خوفا من «الفضيحة»، خاصة أن المجتمع لا يرحم ولا يقبل إنجاب الفتاة خارج مؤسسة الزواج.. «المساء» تنقل لكم الوجه الآخر للمهاجرات المغربيات في إيطاليا وتروي لكم قصصهن بعدما انقطع بهن حبل الأمل في بلدهن الأصلي وظل حلم الهجرة يراودهن.. إنما ما تبخّرت الأحلام وتحولت إلى أوهام، فلم يعد أمامهن سوى البحث عن بديل.. فكان التمسك بحبل الزواج والإنجاب اللذين لم يزدهن سوى مشاكل فوق مشاكلهن، لكونهما المنقذين بخصوص زيادة نسب الحظوظ في الحصول على أوراق الإقامة، غير أن أغلبهن لم يتمكّنّ من تحقيق حلم الزواج، فتعاطين الدعارة والفساد وأنجبن أبناء «لقطاء» لا يحمل معظمهم نسَب الأب، فكنّ ضحايا وعود سرعان ما تبخرت ليجدن الشارع في انتظارهن، فأضحين ينطبق عليهن المثل المغربي «لا ديدي لا حْبّ لملوك»... الخروج من المأزق «زهرة» نموذج مؤثر لما تعيشه الأمهات المغربيات العازبات من جحيم في ديار المهجر.. رمتها الأقدار في أحضان أوربا لتجد نفسها، فجأة، بين مطرقة العودة إلى المغرب وسندان البقاء «بلا معنى»، خاصة أنها لا تتوفر على وثائق الإقامة التي تضمن لها الاستفادة من الامتيازات والحقوق التي يستفيد منها المواطن الإيطالي. تقول «زهرة» إنها تقطن في غرفة متواضعة تقتسمها مع إحدى الأسر في انتظار الإستفادة من سكن ملائم. استطردت زهرة، البالغة من العمر 34 سنة، قائلة، إن قصتها بدأت عندما وطأت قدماها إيطاليا بعد حلم كانت تظن أنها حققت جزءا منه، على الأقل، أي أنها «قطعت الواد»، على حد تعبيرها، بعدما حصلت على عقدة عمل محددة في 9 أشهر، أدت ثمنا لها مبلغَ 80 ألف درهم، إلا أنها، وبعد أن أوشكت العقدة على الانتهاء، وجدت نفسها في موقف لا بد من إيجاد حل له.. بدأت تسترجع بعضا من الآمال عندما اقترحت عليها إحدى المغربيات المقيمات في إيطاليا العمل، تسليمها وثائقها وانتحال صفتها إلى حين خروجها من المأزق.. تضيف زهرة أنها نفّدت الخطة واشتغلت مع إيطالي يملك شركة متخصصة في صنع الأدوات الحديدية، وهناك تعرفت على مغربي وربطت معه علاقة وصفتها بالمصلحية. كان الشخص يشتغل في نفس الشركة، حيث يسهر على تنقلاتها من وإلى العمل، نظرا إلى كونها تقطن بعيدا عن مقر العمل، لكن علاقتها تطورت لتنتهي بحمل غير مرغوب فيه من طرف واحد. المخاض.. انكسار الأمل كانت كل آمالها متعلقة بأن تتحسن وضعيتها في إيطاليا بعد وضعها ابنتَها، إلا أن الأمور وصلت إلى الباب المسدود، بعدما تخلى عنها من كان وراء حملها، وتركها تعاني لوحدها في لحظة كانت خلالها في أمسّ الحاجة إلى من يقف إلى جانبها ويخفف من معاناتها. تقول زهرة إن المغربي الذي حملت منه تخلى عنها في آخر لحظة، مخافة أن ينفضح أمره، على اعتبار أنه متزوج من مغربية، والاعتراف وأضحى بالابن «مستحيلا».. تسترسل زهرة في سرد «فاجعتها» قائلة إن المشاكل التي مرت منها أتت كتسونامي باغتَها، واختلطت عليها الأوراق: الحمل غير المشروع وهروب الشخص الذي حبلت منه وتخلف الإيطالي عن وعوده.. مشاكل وأخرى نزلت عليها كالصاعقة، وما زاد الطين بلة أنهم حرموها من ابنتها.. كادت تفقد عقلها، تؤكد زهرة أن العاملات الاجتماعية انتزعن منها فلذة كبدها، ولولا تدخل فاعلة جمعوية أقنعت قاضي الجالية لفقدت زهرة ابنتها إلى الأبد.. الزواج الأبيض.. نصب واحتيال بعدما فشلت في الحصول على تأشيرة الإقامة، كان المنفذ الوحيد والأسرع بالنسبة إلى زهرة هو الزواج الأبيض.. تزوجت من إيطالي بعقد قران صوري من أجل الحصول على تلك الوثائق، وأدت مقابل ذلك ثمن 3 ملايين سنتيم وتدفع له سومة الكراء بمبلغ 8 آلاف درهم في الشهر.. علاوة على دفع المصروف اليومي من أكل ومشرب، بل وحتى السجائر هي من كانت تدفع مصاريفها، والأسوأ أنها في نهاية المطاف لم تحقق ما كانت تصبو إليه، فأحسّت بالدمار والانهيار واسودّت الدنيا في عينيها، واستطردت قائلة: «لا مال، لا أوراق، لا كرامة.. لا شيء غطلاقا».. قصة زهرة ليست إلا نموذجا مصغرا لمعاناة الأمهات العازبات في ديار المهجر، اللواتي يلجأن إلى حلول من هذا القبيل. وإذا كانت زهرة تملك الجرأة لسرد قصتها وفتح باب النقاش ل«المساء»، فإن عددا من الأمهات العازبات اللواتي التقت بهنّ الجريدة في عدد من مدن شمال إيطاليا فضّلن السكوت وطمس الحقائق، على اعتبار ذلك خطأ تاريخي ارتكبنه تحت ظروف قاهرة. فاطمة (اسم مستعار) أم عازبة، لا يتعدى عمرها 32 سنة، متوسطة الجمال وقد تركت ظروفها القاهرة على وجهها بصمات الزمن الذي لا يرحم وحجبت عن ملامحه قسماتها الطفولية، لتعطي أنطباعا بأنها في عقدها الرابع.. كانت تحمل بين يديها طفلا لا يتعدى عمره السنة الواحدة، ضمته إليها وكأن أحدا سيحرمها منه.. تتحدث ونظراتها مليئة بالخوف، لا تتكلم إلا بعد أن يُطرَح عليها سؤال ولا تجيب إلا بما قل ودل.. مشهد يصعب وصفه، لكن الصورة واضحة، فكل الأشخاص الغرباء يبدون في نظرها أشرارا وأن هدفهم الوحيد هو انتزاع طفلها واغتصاب أمومتها.. أدركنا أن صمتها كان بدافع شكوكها في هويتنا، حيث كانت، في البداية، تظن أننا عاملات اجتماعيات وغرضنا من مقابلاتها ليس سوى حرمانها من ابنها.. تبيّنَ ذلك من خلال استفسارها من إحدى مرافقتها بعدما كلمتها باللغة الإيطالية إن كنا عاملات اجتماعيات، لكن الأخرى طمأنتها وفسرت لها أن الموضوع لا علاقة له بذلك.. لم تفهم فاطمة ذلك نظرا لكونها لم يسبق لها أن دخلت المدرسة. بعد صمت طويل، واصلت فاطمة كلامها ولم تتردد في توجيه سؤال لنا عن الغاية من البحث في مشاكل الأمهات العازبات.. ولم نتردد، بدورنا، في الإجابة وأخبرناها أن الهدف ليس سوى معرفة مشاكل الجالية المغربية في ديار المهجر وتسليط الضوء عليها، وشرنا لها أن موضوع الأمهات العازبات جزء من اهتمامات الجريدة.. استطردت قائلة: «كاين مشاكلْ كثْر من هادشّي»، قبل أن تقاطعها مرافقتها وتطلب منها سرد قصتها دون ذكر الاسم. أقنعتها بصعوبة، فتنفست بقوة، مواصلة كلامها بقولها إن أغلب المغربيات يلجأن إلى «الزواج الأبيض» أو إلى الحمل غير الشرعي لضمان الحصول على وثائق الإقامة، قالت ذلك بعد إحساسها بنوع من الارتياح من كون غايتنا شريفة وغير مبنية على نوايا مبيَّتَة. بدأت تسرد تفاصيل قصتها التي ما إن بدأت في سردها حتى انهمرت دموعها على خديها، قبل أن تنتبه إلى ابنها، الذي شرع في الصراخ، وكأنه أحس بمعاناة أمه، التي قدمت نفسها قربانا لمن لم يكن هدفه سوى نهش اللحوم الآدمية والإيقاع بالضحايا من خلال التغرير بهن وابتزازهن بضمان حصولهن على وثائق «الطاليان».. تسول وسرقة.. بعدما وجّهنا عددا من الأسئلة إلى ثلة من الأمهات العازبات التي التقتهن «المساء» في إيطاليا حول مدى صحة الإشاعات التي تتحدث عن امتهانهن السرقة والتسول، نفين إقدامهن على تلك التصرفات باستثناء واحدة أكدت أن هناك بعض الأمهات اللواتي يعشن ظروفا قاهرة ولا يتوفرن على عمل قار، وفي أحسن الأحوال، يشتغلن في «النوار»، وعادة ما يبحثن عن سبل أخرى لكسب قوت اليوم، وهو ما أكدته نورة فوزي، وهي فاعلة جمعوية في بلدية «ليكو»، عندما قالت، في مقابلتها مع «المساء»، إن نسبة 70 في المائة من المغربيات في إيطاليا ينجبن خارج مؤسسة الزواج، وأغلبهن يجهلن القوانين الإيطالية ويجهلن أن كل شيء تمنحه الخيريات من إعانات ومساعدات فهو مسجل وأن اللواتي يترددن بشكل متكرر على تلك الخيريات يتم تصنيفهن في خانة «المتسولات»، والغريب في الأمر أن اللواتي يمارسن هذه السلوكات لسن بالضرورة من المحتاجات أو المستضعفات وإنما لطمعهن وجشعهن ورغبتهن في الحصول على الإعانات. وتضيف فوزي أن عددا من الأمهات العازبات يلجأن إلى التسول والسرقة في الأسواق الممتازة، ما يدفع العاملات الاجتماعيات المكلفات بملفات الأطفال، سواء كانوا شرعيين أو غير شرعيين، إلى تتبع الأسر التي تتوفر على أبناء ومعرفة الظروف الاجتماعية والوسط الذي يعيش فيه هؤلاء الأطفال، مشيرة إلى أن حرمان عدد من الأسر المغربية من أبنائها لا يأتي من فراغ وإنما يأتي بناء على الملاحظات التي تقدّمها العاملات الاجتماعيات في هذا الباب، من خلال التقصي ووقوفهن على سلوكات قد تؤثر سلبا على السير العادي لحياة الطفل.. وتذكرت فوزية ملف أم عازبة كانت قد أشرفت على تتبعه، عندما ضبطت السلطات الأمنية مجموعة من الأمهات العازبات يسرقن بعض المنتوجات داخل سوق ممتاز ويضعن تلك المسروقات في العربات المجرورة الخاصة بالأطفال وعند خروجهن من المركّب التجاري، طاردهن رجال الأمن وكانت ضمنهن حالة سيدة لديها ابنة صغيرة، لاذت بالفرار من كثرة الخوف، تاركة ابنتها في عربة الأطفال المجرورة، ما دفع السلطات إلى أخذه وتسليمه إلى إحدى الخيريات!.. وبعد تدخل العاملات الاجتماعيات، تحت إصرار محللة نفسانية إيطالية تم الاحتفاظ بالابنة في الخيرية إلى حين تسليمها لأسرة ما، غير أن فوزي، باعتبارها فاعلة جمعوية، قابلت الحالة وتأكدت من كونها لم تكن تسرق وإنما هربت بدافع الخوف، فتدخلت لصالح الضحية ورفضت حرمان الأم من فلذة كبدها، خاصة أن كل «مستقبلها» و«آمالها» في تلك الطفلة التي أنجبتها خارج مؤسسة الزواج.. واستطردت فوزي قائلة إن هناك الكثير من الأمهات العازبات اللواتي يقتسمن نفس المعاناة في بلدان المهجر، بعدما وجدن أنفسهن مكرهات على الإنجاب خارج مؤسسة الزواج، ما يدفع الكثيرات منهن إلى الانحراف والإقدام على عدد من الممارسات التي تهدد استقرارهن مع فلذات أكبادهن. تحريض على «الضياع» هاجر (اسم مستعار) شابة لا يتجاوز عمرها 26 سنة، وأم لطفلة، تحكي عن قصتها في الديار الإيطالية في شهادة صادمة ومؤثرة. قالت هاجر إن أمها هي التي دفعتها إلى خوض غمار الهجرة غير الشرعية وحرّضتها على ربط علاقة غير شرعية وفعل المستحيل لإنقاذ نفسها من «الضياع»، خاصة أن أباها غادر بيت العائلة، بعدما انفصل عن أمها وتزوج بأخرى، واضطرت الأم -ربة بيت- إلى البحث عن عمل، كيفما كان لضمان، قُوت أبنائها الثلاثة. وتابعت هاجر: «كنتُ أنا كبش فداء بحكم أنني الأكبر سنا»، كانت الطريق كلها مفروشة بالأشواك.. لم تجد هاجر أي عمل في إيطاليا وظلت على هذا الوضع لمدة شهرين.. كانت، في البداية، في في استضافة إحدى المقربات من الأسرة: «ريحت الشحمة في الشاقور»، على حد تعبيرها، لكنها سرعان ما استعجلتها المغادرة، بعدما قضت معها حوالي ثلاثة أشهر، خاصة عندما اكتشفت حملها من أحد المهاجرين المغاربة كان قد وعدها ب»الوقوف إلى جانبها» إلى حين حصولها على أوراق الإقامة، واستسلمت لنزواته إرضاء له، حتى لا يتراجع عن وعود.. فكرت في الإجهاض، بإصرار منه، إلا أنها وجدت نفسها بين خيارين يصعب الحسم فيهما: إنجاب ابن غير شرعي سيضمن لها الحصول على أوراق الإقامة أو الإجهاض، الذي سيعيد حياتها إلى نقطة الصفر.. لكن الأخير يصعب تحقيقه في دولة تحترم حقوق الإنسان ولها معاييرها في هذا المجال، حيث لا تقبل الإجهاض إذا كان ذلك يشكل خطرا على حياتها وحياة ابنها. ونظرا إلى وضعيتها غير القانونية، فقد قُدِّر لطفلتها أن تولد خارج مؤسسة الزواج وأن تتخذ نسَبَ أب غير أبيها الأصلي.. واصلت هاجر كلامها قائلة، وهي تتذكر ذكريات كانت بالنسبة إليها بمثابة صفحات سوداء في حياتها، والتي مر عليها اليوم ما يقارب ست سنوات، إنه بعدما رفضت الإجهاض، اختفى الشاب الذي حملت منه عن الأنظار، وهو مغربي الجنسية ولم يكن عمره آنذاك يتعدى الثلاثين سنة.. بعد إنجابها، ربطت علاقة ثانية مع إيطالي يكبرها ب20 سنة.. ومنح لابنتها نسبه ومكّنها من الحصول على أوراق الإقامة والاستقرار بشكل نهائي في إيطاليا.. لم تُخفِ هاجر معاناة الأمهات العازبات في إيطاليا والمشاكل التي تعترض سبيلهن، خاصة أنهن محط جميع الأنظار.. فهناك من يصفوهنّ بالعاهرات وهناك من من يصفوهن ب«اللصات» وغيرها من النعوت التي ظلت لصيقة بالمهاجرات المغربيات بشكل عام وبالأمهات العازبات بشكل خاص.. قبل أن تضيف أن هناك نماذج من الأمهات العازبات «خْنّزو الشّواري» من خلال إقدامهن على التسول بأبنائهن أمام الخيريات والجمعيات، ما حرم العديد منهن من أبنائهن.