قد تكون الديمقراطية حلا لمشاكل كثيرة في بلدان عديدة، لكنها ربما تتحول إلى مأزق كبير في مصر البلد العربي الأكبر التي خاض شعبها ثورة عظيمة للوصول إليها، مأزق يفرّخ العديد من المشاكل إذا اختلت طريقة التعامل مع هذا الاستحقاق غير المسبوق. نشرح أكثر ونقول إن الشعب المصري، الذي يميل في معظمه إلى الوسطية والمعارضة السلمية، عليه أن يختار في الجولة الانتخابية الثانية والحاسمة بين مرشحين يمينيين، أحدهما إسلامي (محمد مرسي) يريد التأسيس لدولة دينية تطبق الشريعة، والثاني علماني يطرح شعار الدولة المدنية كواجهة لإعادة استنساخ النظام السابق عبر البوابة الديمقراطية. كيفية تعاطي الشعب المصري مع هذا المأزق الانتخابي الذي لا يحسد عليه، هي التي ستحدد ليس فقط هوية مصر، وإنما المنطقة العربية بأسرها، ولهذا نضع أيدينا على قلوبنا، ومعنا عشرات الملايين من المصريين أولا، والعرب ثانيا. فرسا السباق في المرحلة النهائية حصلا على أقل من نصف أصوات الناخبين الذين اقترعوا في الجولة الأولى، ولكن هناك 12.4 مليون مصري صوتوا لمرشحين آخرين هم الذين سيقررون الرئيس القادم لمصر، شريطة أن تأتي الانتخابات نزيهة حرة وبعيدة عن تدخلات العسكر أولا، وقوى خارجية ثانيا. الخوف هو عنوان الجولة المقبلة، والقلق من المستقبل هو القاسم المشترك لدى الغالبية العظمى من الناخبين. هناك قطاع عريض يخشى من الفريق شفيق وعهده إذا ما فاز بطريقة أو بأخرى، وهناك قطاع عريض آخر لا يقل أهمية يتخوف من الإخوان وتطبيقهم للشريعة وإقامة دولة دينية صرفة، ومن بين هؤلاء الأقباط وبعض القوى الليبرالية واليسارية. كثير من المصريين كان يتمنى ألا يجد نفسه في هذه الدوامة، وأن يذهب إلى صناديق الاقتراع دون أي خوف أو قلق، ولكنها الديمقراطية التي تفرض أحكامها ومعاييرها، وعلى رأسها الحق في الاختيار، حتى لو كان هذا الاختيار بين السيئ والأسوأ بالنسبة إلى البعض. في جميع الأحوال، سيكون النموذج الجزائري حاضرا بعد إقفال صناديق الاقتراع وإعلان النتائج رسميا، في حال سير الأمور دون مشاكل أو اضطرابات، وهو أمر غير مضمون بالنظر إلى بعض الاحتكاكات والصدامات والاحتجاجات التي نرى إرهاصاتها حاليا. فإذا فاز الفريق شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد النظام السابق، فإنه سيكون رئيسا مدنيا يمثل المؤسسة العسكرية الحاكمة ويحظى بدعمها، تماما مثلما هو حال الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة؛ أما إذا فاز السيد محمد مرسي، مرشح الإخوان، فإنه قد يواجه بانقلاب عسكري يمنع وصوله إلى سدة الرئاسة، تماما مثلما حدث بعد فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية في انتخابات عام 1991. المؤسسة العسكرية لا تريد رئيسا إسلاميا مدعوما بسيطرة حزبه (الإخوان) وحلفائهم (السلفيين) على مجلسي النواب والشورى، والإخوان الكتلة الصلبة الوحيدة في البلاد (غير المؤسسة العسكرية) لن يفرّطوا في حقهم في رئاسة وصلوا إليها عبر صناديق الاقتراع، تماما مثلما فعلت جبهة الإنقاذ الجزائرية بقيادة عباسي مدني، وما حدث بعد ذلك من صدامات وحرب أهلية معروف للجميع. الأسبوعان القادمان هما الأخطر في تاريخ مصر، نقولها دون أي مبالغة، مع اعترافنا المسبق بكثرة استخدام هذا التعبير، وعلينا أن نتوقع الكثير من المفاجآت، ومعظمها قد لا يكون سارا. حرق المقر الانتخابي للفريق شفيق ربما يكون بداية هذا المسلسل، ولا نستبعد أن يكون إحدى الثمار المرّة للآلة الجهنمية التي تريد منع المرشح الإخواني من الوصول إلى الرئاسة؛ فهناك غرفة سوداء تعمل في الخفاء لإرهاب الشعب المصري وتخويفه من حالة عدم الاستقرار الحالية وتفاقمها في البلاد، وهو عدم استقرار يغذيه ويفاقمه أنصار النظام السابق في المؤسستين الأمنية والعسكرية. الفريق شفيق قدم نفسه على أنه عنوان الاستقرار، وطرح شعارا يروّج لإعادة الثورة إلى أصحابها، ملمحا إلى خطف الإسلاميين لها، وترسيخ أسس الدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية. دولة الفريق شفيق ليست مدنية وإنما هي دولة عسكرية بلباس مدني ديمقراطي مخادع، لإعادة نظام التبعية والفساد السابق، بما يؤدي إلى وأد الثورة مبكرا وليس إعادتها إلى أصحابها في ميدان التحرير؛ فالفريق شفيق كان من أكثر المعادين لهذا الميدان وثواره، والمدافعين عن النظام السابق؛ وكونه حقق بعض الإنجازات الإدارية عندما كان وزيرا للطيران المدني، وفي ظل نظام ديكتاتوري قمعي، لا يعني أنه يصلح لقيادة مصر إلى الصدارة والنهوض بها بما يعيد إليها دورها الريادي والقيادي المفقود. نعم.. المصريون يخافون الفوضى، وهناك من يخطط في غرفه السوداء لتغذية جرعة الخوف هذه وتضخيمها، بتحريض من قوى خارجية، إسرائيلية أمريكية عربية على وجه الخصوص، مدعومة بإمبراطورية تضليل ليس لها مثيل في التاريخ، أو تاريخ المنطقة على الأقل. لسنا في موقع يعطينا الحق لإملاء تمنياتنا أو قناعاتنا، وإن كنا نتمنى ذلك، لأن ما سيحدث في مصر سينعكس على المنطقة بأسرها وسيؤثر على مستقبل أجيالنا القادمة، ولكن من حقنا أن ندلي بدلونا، للأسباب السابقة، ونقول إن مصر لا يجب أن تعود إلى الوراء مطلقا، بعد أن نجحت ثورتها في إطاحة دولة الفساد، ودفعت ثمنا غاليا لذلك من دماء شهدائها. مصر جربت نظام حكم كان شفيق أحد أركانه لأكثر من أربعين عاما، فماذا كانت النتيجة غير التخلف ووجود أربعين مليونا من أبنائها الشرفاء تحت خط الفقر؟ وصول السيد مرسي إلى الرئاسة لن يكون سهلا، وإذا وصل فعلا فإن بقاءه في كرسي الحكم غير مضمون، ولكن إذا سارت الأمور على ما يرام فإن التحديات التي ستواجهه من الضخامة بحيث تحتاج إلى دعم وتعاون مختلف القطاعات والنخب السياسية والشعبية، لأن هناك قوى عديدة ستحاول إفشال رئاسته. كنت أتمنى لو أن حركة الإخوان اعتمدت النموذج التونسي واختارت رئيسا للدولة، وآخر للبرلمان المؤقت من غير كوادرها، حتى يكون الحكم ائتلافيا حقيقيا، ولكنها اختارت النموذج التركي دون أن تملك خبرته وحنكته وإنجازاته الاقتصادية الضخمة على الأرض، ولكن لا بد من ترك كلمة «لو» جانبا الآن والتعاطي بما هو مطروح على طاولة الانتخابات بطريقة مسؤولة، حفاظا على مصر وأمنها واستقرارها، فالشعب المصري فجّر الثورة من أجل بدء صفحة جديدة، بوجوه جديدة، وعلينا أن نحترم خياره هذا إذا تكرّس وتعزز من خلال صناديق اقتراع في انتخابات حرة ونزيهة. حديث السيد مرسي عن ترحيبه بالشراكة مع القوى الأخرى بمختلف مشاربها، وتلميحه إلى استعداده لاختيار حكومة ائتلافية برئيس غير إخواني، خطوة مشجعة ومطمئنة، تعكس استيعابا إخوانيا لتضاريس الخريطة السياسية الجديدة، نأمل أن تتطور أكثر في الأسابيع المقبلة. ختاما، نجد لزاما علينا التذكير بأنها الخطوة الأولى والدرس الأول في أكاديمية الديمقراطية، ولا بدّ من التريث قبل إصدار الأحكام بالفشل والنجاح؛ فالأخطاء متوقعة، والمهم هو كيفية تقليصها والاستفادة من دروسها.