علينا أن نصفق للزميل عمر سليم لأنه فتح النقاش «السليم» حول التلفزيون حين اعترف بأنه ظل يتقاضى راتبا سمينا من القناة الثانية ويتمتع بامتيازات سخية طوال سنوات، دون أن يقوم بأي عمل، بطلب من المدير السابق ل«دوزيم» مصطفى بنعلي الذي وضعه في «خزانة ذهبية» إرضاء لغريزة الانتقام العمياء. دعك ممن يريدون إيهام المغاربة بأن العقدة هي «مواقيت الصلاة» في «دفاتر التحملات»، مشكلة التلفزيون المغربي تتعلق بالفساد والريع وسوء التدبير، في البداية والنهاية، كما ذكرنا عمر سليم. في شتنبر 2003، عاد مصطفي بنعلي إلى «دوزيم» التي طرد منها شر طردة على خلفية الاشتباه بتورطه في صفقات غير شفافة من طرف نور الدين الصايل، سلفه على رأس القناة. هذه العودة المريبة لمدير البث المطرود دُبرت في دهاليز وزارة الاتصال، التي كان يشرف عليها نبيل بنعبد الله، وشكلت انتصارا للوزير في معركته الطاحنة ضد الصايل. وكأي شخصية يحركها وازع الانتقام، رجع بنعلي إلى «دوزيم» محملا بالفؤوس والمعاول، وشن حربا شرسة على الكفاءات، توجها بإنجاز غير مسبوق: في ظرف خمس سنوات هدم مشروعا عمره خمسة وعشرون عاما، شكل تجربة إعلامية فريدة في المغرب وبلدان الجوار. لائحة الكفاءات التي تلذذ بنعلي بتحطيمها طويلة: عمر سليم، ابراهيم السلكي، نادية لارغيت، مليكة ملاك،... وكثير من الصحافيين والأطر اضطروا إلى مغادرة القناة في عهده، بينهم الصديق رشيد نيني، الذي حاول بنعلي أن يوقف برنامجه الناجح «نوستالجيا» كما جرب منعه من كتابة «عموده» اليومي (سنوات قبل أن ينجح آخرون في تنفيذ هذه «المهمة القذرة»!) البعض لم يكتف بمغادرة «دوزيم» بل غادر البلاد برمتها مثل الزميل خالد أدنون وعبد ربه الضعيف... كنت قد استلمت «وحدة المسرح» في القناة خلفا ليوسف فاضل، بعد أن أنهيت دراساتي في باريس ورجعت إلى البلاد محملا بأحلام كبيرة، سرعان ما تحولت إلى أوهام. كنا نبرمج مسرحيتين في الشهر، تختارهما لجنة انتقاء تتضمن أعضاء من داخل وخارج القناة، كما تقتضي أعراف حسن التدبير. بمجرد وصوله، رفض بنعلي تجديد عقود أعضاء اللجنة، وصار يختار بنفسه المسرحيات استنادا إلى اعتبارات شخصية غامضة، وبت أكتشف المسرحيات مثل غيري معروضة على الشاشة، وأشعر بأنني موجود في المكان الخطأ. بعد تبادل رسائل متشنجة مع بنعلي، احتجاجا على تجميد عمل اللجنة والانتقاء الاعتباطي للمشاريع، انتهيت بأن استسلمت، وبدأت أشتغل في الصحافة المكتوبة وأتقاضى راتبي كاملا من «دوزيم» دون مقابل... لكن «وخز الضمير» لم يسمح لي بأن أغرق في الريع الذي أراد بنعلي تعميمه في القناة، كي يدير الصفقات لوحده بعيدا عن الأعين، مما جعلني أطلب عطلة سنة دون أجر، هاجرت خلالها إلى فرنسا بحثا عن آفاق مهنية أقل عبثا... نحن أمام شهادة دامغة على إهدار المال العام من طرف مسؤول عن مؤسسة يمولها المغاربة من جيوبهم، وما خفي كان أعظم، لأن شهادة عمر سليم ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج، الجبل الذي رسم تضاريسه تقرير المجلس الأعلى للحسابات خلال فترة تدبير بنعلي ل«دوزيم»، من خلال رصد صفقات تفتقر إلى الحد الأدنى من الشفافية واختلالات خطيرة في التدبير، لا تقل عما سجله التقرير في مؤسسات عمومية أحيل مدراؤها على القضاء، وبعضهم يوجد في «عكاشة»، مثل مدير المكتب الوطني للمطارات عبد الحنين بنعلو. قبل أشهر، تعهد الحبيب الشوباني، في حوار مع قناة «ميدي 1 تيفي»، بأن تحيل الحكومة كل تقارير المجلس الأعلى للحسابات على القضاء، ولم يتوقف وزراء «العدالة والتنمية» عن الحديث عن «ربط المسؤولية بالمحاسبة» و«محاربة الريع والفساد»، وها نحن أمام شهادة شجاعة لموظف سابق في مؤسسة عمومية عن إهدار المال العام وتقرير واضح من المجلس الأعلى للحسابات عن اختلالات تستوجب المحاسبة، فهل يملك بنكيران والخلفي والرميد ما يكفي من جرأة كي يحيلوا الملف على القضاء أم سيكتفون بترديد الشعارات كأنهم يقودون تظاهرة احتجاجية وليس حكومة تسير البلاد؟