القضية تكاد تكون مزمنة في علل صحافتنا... تتجاوز صحيفة أو خمسة... والواقعة، موضوع هذا المقال، لن تكون -للأسف- الأخيرة. الواقعة تطرح ،مرة أخرى، أسئلة من نوع... ما هي الحدود الفاصلة، بين الإخبار والرأي؟ ما هي الحدود الفاصلة بين التعليق وبين التحامل؟ وهل الصحيفة على نمط «قصيدة الجاهلية»، لإثارة حماس قبيلة ضد قبائل ومخاطبة الغرائز للتهييج، أم أداة نشر المعرفة وتحقيق الإعلام بوقائع أيامنا وتفكيك معطياتها بالتحليل لتكوين رأي عام على قاعدة مشترك وطني في الوعي والمشاعر؟ هل الصحيفة، وهي منتوج حديث وضمن آليات ممارسة الديمقراطية، هي للإسهام في تطوير المسار التنموي الحداثي وتوسيع نخبته، أم لإطلاق القذائف الناسفة للريادات المحفزة على الإبداع والتفوق. الواقعة، للأسف، مسرحها، بل ومنتجها، جريدة «المساء» التي أحترم الكثير من مميزاتها المهنية وريادتها في الانتشار، وأقدر اجتهادات الصديق رشيد نيني في تطويرها، حتى وأنا أختلف مع بعض اختياراته وتوجهاته... ولذلك- أشكوه إليه، بمعنى أعاتبه، وللدقة أشكوه للأديب فيه، المنشغل باستمطار الفرح من غيوم الحزن التي تلبد سماءات الدواخل. نور الدين الصايل المدير العام للمركز السينمائي المغربي، كمواطن ومسؤول على مرفق عام - إذ لابد من البديهيات - خاضع وقابل لكل أنواع المساءلات، القانونية والمعنوية، الضرورية والممكنة، شأنه شأن البشر البالغ سن المساءلة، والذي يدب على هذه الأرض... وهو، ككل من يعمل و يبادر، معرض للخطأ أو السهو أو التجاوز في التقدير أو التدبير... غير أنه، ككل البشر، لديه حميميات وخصوصيات حياتية، ممنوع الانحشار فيها أو التشهير بها والتحريض ضدها، كما لديه كرامة مصانة ضد الخدش فيها أو الدوس عليها، وكل ذلك بموجب القوانين الكونية والديانات و الأخلاق. الرجل شنت عليه جريدة «المساء» حملة استعملت فيها «كتابة الدمار الشامل»... أحصنة الحملة استعارتها الجريدة من تقرير مجلس الأعلى للحسابات. الذي أمطر جزءا هاما من «دواليب» الدولة بزخات من ملاحظات على تدبيرها لميزانيتها، ومن بين مشمولات التقرير، المركز السينمائي المغربي. بعض ماكتبته الصحيفة، عادي. نقلت محتوى التقرير. محتواه تضمن ملاحظات على بعض أوجه صرف ميزانية المركز... تلك الملاحظات رد عليها المركز السينمائي عملا بقواعد عمل مجلس الحسابات. المزعج في جزء مما كتب، هو التهجم الشخصي على الصايل وعلى زوجته، ضمن «طلقات» كلام خارج عن السياق، واللمز العاري من آداب الحس السليم. و المقلق أيضا، التهويل الذي أحيطت به «قراءة» معطيات تقرير المجلس، والتأويلات التي استقطرت منها عصرا وقسرا، بما يؤشر على تحامل ضد الشخص، تحامل مبيت وعن سبق إصرار وترصد، في ما يشبه كمين نصب للرجل، لزمن طويل، عند منعرج ممر«ملتبس» الإضاءة في ممرات «الأحداث»، لتفجير «حزام حقد» ناسف في وجهه. ذلك التحامل، أتصور أن الذي أوعز به جاهل وحقود، و ليس الأديب رشيد نيني.و لن يكون إلا متضايقا من الثقافة عامة، ذاك الذي يسعى إلى تعتيم إشعاع الصايل في حقلنا الثقافي. ولأن النهش في خصوصيات الناس، وقرصنة الأعراض للارتزاق بها في الأكشاك... من عاديات أمراض العديد من تجار الصحافة... فإن المسؤولية تجاه الوطن و الصحافة معا، باتت تفرض حملة «تلقيح ثقافي» وطنية تعقيما للقارئ من مضارها. الكتابة فوق جلود الناس و من محبرة دمائهم، تستجيب لغريزة بدائية حيوانية خالصة، غريزة أكل اللحوم البشرية ونهشها التي عرف بها الإنسان ما قبل اكتشاف النار...أي ما قبل بدء التاريخ، بما هو الصيرورة الطويلة من التطورات منذ الملكية الخاصة،الأسرة، تميز الإنسان عن الحيوان وانفصاله عن مجتمع الغابة، الأعراف، الدول، الأخلاق، الفنون، الفلسفة، الديانات، القوانين... كل ذلك نسميه أيضا«الحضارة». و المنشود من ذلك السعي التاريخي المعقد، الطويل و المتواصل، أن تنتزع من الإنسان«شهوة» القتل، المادي أو المعنوي، للإنسان... في بعض الصحافة المحسوبة «ظلما» على الصحافة، القتل المعنوي ممارسة يومية والصفحات تتقطر دماء وعرق مواطنين ممن يحملون بعض عناء الشأن العام، أو حتى الذين هم أصلا «شأن عام» من ضحايا الفاقة أو الإعاقات النفسية... وحتى في بعض الصحافة التي نريدها جدية، تمارس تلك الغريزة، تحت الطلب، في نوع من أداء فاتورة وجود لحساب «مجهول»، أو لمجرد تأجيج مواقد الحقد لدى بعض الجمهور المتعطش للانتقام من النجاح الذي لم يطاوعه. نور الدين الصايل وجد، لعقود في موقع من يمارس مهمة وطنية بأهداف ثقافية...المطلوب في منجزاتها أن تسهم في الرقي بالوطن إلى طموحات مواطنيه. واحد ، من بين ثلة، يسعى لإنتاج وترسيخ ثقافة الإبداع ضد خمول الإتباع، ثقافة النقد ضد سموم الحقد، ثقافة مفتوحة الآفاق ضد ضيق الانغلاق، ثقافة تعقل عقلها ضد تلك التي تجهل جهلها... هو ذاك الصايل مند أن اقتحم «الشأن العام» من جهة التدريس ثم التفتيش لمادة الفلسفة، ممتشقا أسئلة فلسفية شتى بدأت بمعنى الوجود، ثم سؤال وجود المعنى الذي سيقوده إلى التجوال في المسافة الفاصلة ما بين الإدراك والوعي، بحثا عن التوازن الصعب ما بين البلاد وصورتها ...ومن يومها وهو علامة بارزة في صورة السينما المغربية...أسهم في التفتح البصري المغربي على «صور» العالم وأشرع ثقافتنا على عالم الصورة من خلال... قيادته للجامعة الوطنية للأندية السينمائية...ممارسة النقد السينمائي في صحف و مجلات مغربية (ضمنها أسبوعية «أنوال») وفرنسية متخصصة...إدارة البرمجة في القناة الأولى، التي جرت عليه غضب ادريس البصري و اعتقاله واتخاذ الحدث ذريعة لتمسك داخلية البصري بتلابيب الإعلام لسنوات... تحمله لإدارة القناة الثانية، بعد عودته من هجرته «الثقافية» إلى فرنسا...والآن تدبيره لهذه النهضة السينمائية المغربية، من خلال إدارته للمركز السينمائي. الصرح الثقافي النير للوطن، معرفة، أفكار، قيم، خيال، ذوق، هوية....ولكن أيضا، بشر، أشخاص، رجال ونساء...بناة ذلك الصرح والمنشغلون بصيانته و تطويره و تمنيعه. في بعض ما ووجه به نور الدين الصايل، فحيح عداء ضد ثقافة التنوير والتقدم التي نتلمس طلائع ربيعها في الوطن، كما ضد منتجيها ومبدعيها. من يعترض مسار التقدم..لن يفلح.