حين يحترق الشاعر بهذا الكل، من القاتل؟.. حضرني هذا السؤال على صيغته المركبة، وأنا أعيد النظر في أعمال عبد الله راجع الشعرية، بدءا من «الهجرة إلى المدن السفلى»، حيث اغتنت هذه المدن، ومنها الفقيه بن صالح -رصيفه الخام -بطاقته الشعرية المطبوعة بالمكابدة وأفقه التخيلي التواق لقيم مغايرة. وتوالت إصدارات راجع ب»سلاما وليشربوا البحار»، منفتحا على التجربة الكاليغرافية، دون تصالح مع الجاهز والنمطي في الشكل، مواصلا مسيرته الشعرية غير المرتكنة إلى الوصفة والتصنيف البارد، وسنده الرمزي صداقات مع شخوص من الحياة والكتابة (شكدالي، عروة بن الورد، لوركا).. في توحد عميق بين القيّم المغايرة كأصل وامتداد. وعلا كعب الشاعر في ديوانه الثالث «أياد كانت تسرق القمر»، الديوان الذي أسس لنفَس ملحمي في قصيدة محتشدة بالحالات والمواقف ضمن تشخيص حواري -ملحمي يليق بالتراجيديات العربية متعددة الأشكال، وهو ما يثبت، إجمالا، مكانة عبد الله راجع ضمن مسيرة الشعر المغربي المعاصر، التي لا يمكن التغافل عنها أو تجاهلها، فهو «شهيد القصيدة المغربية المعاصرة»، كما قال عنه رفيقه في مجلة «الثقافة الجديدة»، محمد بنيس.. وغير خاف أن أعمال راجع الشعرية تعززت بشهادة حول شعرية الجيل الذي ينتمي إليه (سبعينيات القرن الماضي)، طارحا سؤال المنهج والقصيدة في محك نظري متعدد المنطلقات (بنيوية تكوينية، شعرية كوهن، الذوق).. تعدد يسعى إلى إنصات عميق إلى النص، فضلا على نشاطه الثقافي الذي كان يتنفسه يوميا في مجلة «الثقافة الجديدة»، التي سعت إلى عقلنة الجنون بلغة راجع ضمن أفق حداثي وعقلاني، وكذا مجلة «رصيف»، التي كانت فضاء للصداقات المعطاء بامتياز. ونسجل هنا سعة صدره لاحتضان الأصوات القادمة دون صراع جيلي مفتعل، واسألوا هنا صاحب «عاريا أحضنك أيها الطين».. تعدد كان يرعاه الشاعر عبد الله راجع بأعصابه ويغذيه من جسده، الذي وسِع كل شيء ماعدا أعضائه!.. كأني به كان يكتب متابعا ودارسا ومعبّرا عن الرأي في كل شاردة وواردة بين القصيدة والعالم.. ليبرهن على صفة «الشاعر»، التي ليست امتيازا أو نفوذا أو شعيرا يروي ولا يُروى.. بقدر ما هي محنة تتجسد في تلك المواجهة الدائمة مع عالم مختل، وهو القائل: «الشعر هو ما نتنفسه، ما نقتات عليه، هو ما نطمح به أن نؤسس عالما جديدا، عالما تسود فيه القيّم التي ظل الشعر ينادي بها منذ أيام هوميروس إلى الآن». كلام يفتح بصرنا على شعراء حقيقيين تبخّروا مرابضين هناك في الينابيع التي يغطي عليها عماء العالم، أعني العماء الذي يوجه البصر والبصيرة.. عبد الله راجع رمز هوية الكتابة في أقصى وأقسى حالات المرض والتصدع. أليس المرض صدقَ وخبز الشعراء تحت سقف هذا الزمن الرديء وبكامل المسطرة المهندسة!.. ويبقى الشعر رابضا في العمق والجوهر، يسري في الأشياء كالدم الفوار، وبإمكان ذلك أن يكسر قبضة الكتابة نفسها، لهذا، قلما تكون صفة «الشاعر» مطابقة لصاحبها.. وسلاما بلغة البحار...