حقا، هل يأتي الربيع الإسلامي نقيضا للربيع العربي، هل من المعقول أو المقبول أن يلد الفكر الواحد ذاتَه وآخرَه في وقت واحد، أم إن المسألة كلها عائدة إلى بنية هذه التسمية؛ فهناك ربيع متفق على حدثانه، أما موضوع المفارقة فمصدره التوصيف الذي يخصّص الربيع بكونه عربيا أو إسلاميا، هذا مع الانتباه إلى أن لفظ الربيع هو مجرد اسم مجازي أو رمزي، أُريد منه أن يحدّد حدثانا شعبيا غير مسبوق، يكسر صقيع التجمد الذي انتهى إليه نظام الأنظمة العربية الحاكم، حتى كأنما تنازلت النهضة عن كل أهدافها الموعودة، وانحنى ظهرها العالي لكي يلمس رأسُها أخمصَ قدميها. هذه الاستعارة صورة مرعبة، لكنها غير مبالغ فيها؛ ما أمكن الاعتراف بها إلا مع تفجر الحالة المعارضة لها، أي مع انطلاق حراك الزلازل تحت العروش المتخشبة؛ فالمسألة، إذن، هي في هذا الحدثان نفسه قبل أن تطلق عليه الأسماءُ ويُصار إلى سجنه في هياكل التعريفات الجاهزة. وقد جرت عادة الفكر العلمي أن تعيد تأهيله، أن تخترع له نَسَبا وحسبا، أن تلقي على جسده العاري عباءةَ المصطلح الأبوي الأشمل الذي هو التاريخ؛ فهو، إذن، سوف يفقد فجاءَته، إذ سوف يفارق خامته الأولى. سيأخذ مكانه من مسلسلات الأسباب والنتائج. سيغدو مادة مطواعة لعقلنات التنظير والتأويل والتسويغ، فالأجهزة البلاغية معطلة عن العمل منذ انهيار عصر الأداليج الكبرى. ها هي جائعة، نَهِمة، ومتقاتلة في ما بينها لنهش قطعٍ من لحم فريسةٍ طازجة، لا يمكن لأحد ما، لأمهر الصيادين أن يدعيها ملكا خالصا له وحده. «الربيع العربي» هذه الاستعارة الجمالية لم ترد في نص أدبي أو قصيدة إبداعية، لكنها لاقت مصداقية فورية وكونية ما وراء حدود السياسات والحضارات، لقد نطقت باسمها ألسنةٌ وأقلامٌ، ما كان أصعب وأبعد من أن يلتقي، حتى بعضها القليل، حول طارئ عابر أو مهدّد من طوارئ السياسة العالمية، إذ صار من النادر في هذا العصر أن ثورة شعب صغير يمكن أن تغدو مثالا أمميا بين عشية وضحاياها، لمجرد نجاحها فوريا؛ فهل نقول إن الحالة العربية تختصر الوضع العالمي أو أن الوضع العالمي هذا قد وجد فرصته للانطلاق من خلال المبادرة العربية. فإذا عدنا إلى اللغة شبه الفلسفية، كان التأويل الأول الذي يتبادر إلى ذهن الملاحظ النزيه هو أن إنسانية القرن الواحد والعشرين سوف تتميز بكونها ستعاني مرحلة تصفية شاملة ودقيقة لأهم وأدهى أوهامها التاريخية المتجذرة، أو أنها، في حال ما إذا أخطأت أخلاقية هذه التصفية وشمولها، فإنها ستتعامل مع هذه التصفية عينها، وكأنها هي كذلك الوهم الأكبر.. ولكن الأخير. هناك من يعتبر أن الشبكيات العنكبوتية (المعلوماتية) سوف تتكفل بجهود التصفية لأوهام الماضي الحضاري، إنها تنسف كل الحواجز بين العقول، عقول الأفراد، وليس الكتل الكبيرة، من مجتمعات وأمم ودول، فحسب؛ فالبشرية لن تشكو بعد اليوم من ضعف التواصل في ما بين وحداتها، بل لعلها ستغرق في بحار معرفية لا شواطئ لها. هذا الفيض الهائل من كل أجناس المعلومات وأنواعها ومفرداتها لن يَدَع عقلا يعتذر عن جهله بقلة رصيده من المعارف. لكن، مع ذلك سيثور هذا السؤال حينئذٍ: هل الأصل في التفاوت بين البشر راجع إلى نقص المعلومة في كمها أو نوعها أم بالأحرى في العجز عن فهمها؟ عند هذه النقطة يمكن القول، بالنسبة إلى موضوعنا عن دلالة «الربيع»، كيف هي تهلّ بالكثير من المعاني كل لحظة، ولكن كيف يُساء تدبّرُها اليومي مع متعرجات تداولها، سواء في وطنها الأصلي أو في أوطان الآخرين، فالشبكيات العنكبوتية أسهل عليها نشر الغثّ الخفيف من تحمل أعباء الثمين الثقيل. وبهذا المعنى، يمكن الإشارة كذلك إلى أن ظاهرة الربيع لا تينع بالأزهار وحدها بدون أشواكها معها أو ضدها. قد يكفي القول إن العالم بات متغيرا بالواقع وليس بالتمني. هذه الحقيقة سهلة باللفظ والتأشير، لكن إدراكَها لن يكون كذلك أبدا. ربما اقتضى الأمر من العقل، المتطلع إلى استبدالها، أن يكون قد تصفى من أجهزته التحليلية الهرمة، صار متغيرا في طبيعته ومسالكه ومواقفه، حتى يتاح له، إذا ما ألقَى ذاته في خضم التيار، ألا تجرفه كلّ موجة عابرة به يمنةً ويسارا. وقد يكون الفكر الغربي سباقا إلى التبشير بقدوم التغيير بالرغم من انسداد آفاق الحلول أمام مشكلات اقتصاده تحديدا، مع تأكده من ضمور إمكانية المنافسة المجدية عنده، إزاء عمالقة الاقتصادات الشرقية الصاعدة. لكن ثقافة التغيير لها جذورها الأعمق في بنية المشروع الثقافي الغربي، فهي تُنجده في اللحظات الحرجة، بالتحولات الحاسمة، التي قد يبلغ بعضها مستوى نوعيا، يُصطلح عليه تحت معيارية «الضرورة الذهبية». فرنسا رائدة في التحسس السريع بتقلبات أمزجة التاريخ. جمهورُها المثقف، وسطيا ونخبويا معا، لا يلتقط حسّ التغيير قبل سواه فقط، بل يعيه ويمتطي أفراسه المطهمة في لمح البصر. إنه الجمهور الحرّ، الممتلك لخبرات «الديمقراطية المضادة» التي من شأنها أن تتدخل في اللحظة الحرجة، لتعيد إحياء الديمقراطية التمثيلية، لترفع من حمية الجماهير الأوسع كيما يقولوا قولتهم الفاصلة، كيما يعزلوا ويعاقبوا سلطة خانت أمانتهم الأخلاقية، وأهانت كرامتهم الحضارية.. وكيما يأتوا ببدائل عنها، لن تكون مختلفة عن سابقتها إلا بما يمتلكه كل ربيع يريد أن يكون حقيقيا وقادرا على تجاوز عقابيل الشتاء الصقيعي البائد، ولكنه لا يزال يحتل قاعَ الأرض تحت مواسم ربيع ينتظر ازدهاره الموعود. لعلّ موجة السلطة اليمينية للنيوليبرالية المسيطرة على الغرب الأوربي شرعت تخسر حكوماتها واحدة بعد الأخرى، فالبداية فرنسية واضحة وقوية، ومثيلتها ألمانية، مع نجاح الحزب الديمقراطي الاجتماعي منافسا لمستقبل زعيمة التقشف الأوربي، ميركل، وتخاذل حكم المحافظين تمهيدا لزوال سلطته بعد الانتخابات البريطانية القادمة، هذا عدا عن فوضى السياسة الحاكمة في بقية أقطار القارة الهرمة، المهدد أكثرها بالإفلاس الدولاني، مما يعني أن حقبة النيوليبرالية، المجنونة بفلكيات الأرقام ذات الأصفار اللامتناهية، تتهاوى أعمدتها السلطوية، يترنح أكبرها لينهار أضعفها، ثم لن يتبقى لأحدها سوى الذكر الأسوأ. هل من المبالغة إصدارُ الحكم القائل إن الربيع العربي قد يكون بمثابة رد الفعل الأول على الأزمة العالمية الموصوفة فحسب بالاقتصادية؟ ليس هذا بالضبط، بل قد يكون ردا على حالة الاستعصاء تلك التي آلت إليها كلُّ الحلول المقترحة أو الممارَسة لرأْب صدوعٍ معينة في «الأزمة» دون سواها، من مشكلاتها المتراكبة؛ فالربيع وُلد عربيا، وقد يصير عالميا لا تتناقله مؤسسات أو أحزاب أو دعايات فحسب، بل مجتمعاتٌ كاملة. حادثتُه وحدَها، تفجرت في بلاد تعتبر ثانوية، ليست في مدار الاستراتيجية الكونية، لكن (الحادثة) قد تجد لها تربةً خصبة من كل أرضٍ، وطنٍ، أو دولة تغشاها عناكب الأشواك والطحالب المسمومة من مركّبات الاستبداد/الفساد، ولا تجد علاجا لأوبئة عقمها المستديم؛ فقد يذهب التفاؤل (الاستراتيجي) ببعض المفكرين إلى اعتبار أن التغيير في مناخ السلطة الحاكمة للوحدة الأوربية سيكون هو المدخل نحو «ربيع» يخصّ القارة المدعية، عن حق أو عن بعض الوهم أو كله، كونها هي الحاملة لأعباء قيادة المدنية البشرية اليوم والغد، خاصة بعد أن تورطت هذه القارة في أرهب أو أعظم تجربة كيانية عرفتها في تاريخها، عندما جمعت حوالي ثلاثين دولة وأمة وثقافة في إطار وحدة واحدة. لكن عبقرية «القارة القائدة» لم تُنجدها حتى الآن باجتراح الأجوبة الأولية عن أسئلة بسيطة، من مثل: أية وحدة واحدة، كيف بناء الوحدة، ما الإمكانيات الفعلية وعقباتها، ما هي آمال الوحدة، كل هذه التساؤلات ومشتقاتها تمّ رَكْنُها ما وراء بيروقراطية الأجهزة الإدارية التي تمخّض عنها اسمُ (الاتحاد الأوربي)، لتغدو هي حكومة الاتحاد في عاصمته المختارة بروكسيل، مدينة الشمال شبه الريفية، النائية عن أية عاصمة فعالة من دول الاتحاد، القاطرة لمشروعه. أول الغيث الربيعي في صحراء هذا الاتحاد هو أن واحدا من بعض شعوبه القيادية ينتزع زمام المبادرة، فيقفز اليسار الفرنسي فجأة من سباته المستديم، مستيقظا تحت ضغط انحدار (الساركوزية) نحو الشعبوية القوموية حتى بعد سقوط رئيسها نفسه. لكنْ ينتصر اليسار الاشتراكي بعد إقصائه عن قمم السلطة حوالي ربع قرن، ليعود (رئيسه) صاعدا فوق السجادة الحمراء نحو عرش الجمهورية الفرنسية الخامسة؛ فانتصار اليسار ليس في استعادة الحكم، بل في قدرته على ممارسة الحكم اليساري. هنالك في القمم العليا تُمتحن إراداتُ التغيير الحقيقية، كأنما لا يصل اليسار إلى السلطة إلا في الأوقات العصية، وبعد أن يتحقق عجز التقليديين الحاكمين عن تغطية انحرافاتهم بأية حلول وهمية جديدة، فالمهمات التي تنتظر التغيير الأوربي قد تكون هي الأخطر في تاريخ الغرب المعاصر. والمثقفون هنا يدركون أن حالة الاتحاد تخطت حدود الإصلاحات العادية، وحتى المتشددة منها؛ كسياسة التقشف مثلا، فهي قد وضعت معظم دول الاتحاد أمام أحد خيارين مشؤومين، إما إفلاس الدولة أو انهيار الأمن الاجتماعي، فهل يستطيع اليسار العائد فرنسيا اليوم، وربما أوروبيا غدا أو بعده، اجتراحَ الحل الثالث الذي اخترع صوتَه الأول شبابُ الربيع العربي، في عبارة واحدة: الشعب يريد إسقاط النظام؟ فأي نظام هو المقصود في نداء شبابي أوربي، هل هو كيان الاتحاد أم نظامه النيوليبرالي..؟ الجواب لم يعد مؤجلا!