في الوقت الذي تعيش فيه المعارضة السورية خلافات حادة تهدد بانفراط عقدها، ونسف فرضية تمثيلها للقطاع الأكبر من الشعب السوري، والبروز كبديل للنظام أو محاور له في أضعف الإيمان، تبرز قوة مسلحة ثالثة على الأرض، ربما تؤدي إلى خلط الأوراق وإعادة النظر في الكثير من المسلمات التي سيطرت على الساحة السياسية منذ انطلاقة الانتفاضة السورية. تأجيل جامعة الدول العربية مؤتمر المعارضة السورية الذي كان مقررا عقده في القاهرة يومي الأربعاء والخميس، إثر انسحاب المجلس الوطني السوري منه، وانعقاد لقاءين آخرين، أحدهما في روما والآخر في إسطنبول، كمؤشرات على هذه الانقسامات، سيعززان التيار الثالث الأكثر انسجاما وتسليحا ووضوح رؤية الذي نتحدث عنه. الهجومان الانتحاريان في العاشر من ماي الحالي، اللذان استهدفا مقرات أمنية وحزبية للنظام في مدينتي حلب وإدلب، قد يكونان بمثابة جرس إنذار لما يمكن أن يحدث في سورية في الأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة. قبل دجنبر الماضي، لم يسمع أحد بأي عمليات انتحارية في سورية، ولكن منذ ذلك التاريخ شهدت البلاد 11 تفجيرا انتحاريا، تصاعدت حدة خطورتها بشكل تدريجي، وبلغت ذروتها في التفجيرين الأخيرين اللذين أوقعا 55 قتيلا. اختيار مدينتي حلب ودمشق كهدف لهذه التفجيرات لم يكن من قبيل الصدفة، فالمدينتان لم تشاركا في الانتفاضة السورية ضد النظام، وإن شاركتا فبشكل محدود، وفي المناطق الريفية المحيطة بهما. واستهداف مقرات أمنية الهدف منه هزّ صورة النظام في أذهان مؤيديه، وترهيب الطبقة الوسطى، طبقة رجال الأعمال والمال والمهنيين التي ساندته، ووضعها أمام خيارين: إما الهجرة إلى الخارج، مثلما حدث مع نظيرتها العراقية، أو الانضمام إلى المعارضة، وعليها تحمل النتائج في حال استمرارها على موقفها الحالي. المعارضة السورية اتهمت النظام بترتيب هذه التفجيرات والقول بأن تنظيم «القاعدة» يقف خلفها لحشد العالم الغربي خلفه، تماما مثلما فعل العقيد معمر القذافي ولم يصدقه أحد في حينها، والجيش السوري الحر أكد على لسان قائده، العقيد رياض الأسعد، أنه لا يملك الإمكانيات لتنفيذ عمليات بهذه الخطورة، وهو محق في ذلك، ولكن القوتين العالميتين الكبريين اللتين تخوضان حربا باردة على أرض سورية، وهما أمريكا وروسيا، اتفقتا على اتهام تنظيم «القاعدة»، فقد أكد ليون بانيتا، وزير الدفاع الأمريكي، أنها موجودة هناك، وفعل الشيء نفسه غينادي غانيلوف نائب وزير الخارجية الروسي. لا أحد يستطيع تبرئة النظام بالكامل من الوقوف خلف مثل هذه التفجيرات، فلا شيء مستبعد على أجهزته الأمنية، ولكن ليس من عادة النظام إرسال انتحاريين في سيارات مفخخة لتدمير مقراته الأمنية والحزبية وتحطيم هيبته التي تعتبر الشيء الوحيد الذي بقي له للتعلق بالحكم وحشد ما تبقى من أنصاره خلفه؛ فإذا كان النظام يحترف الكذب والتضليل، فإنه من المفترض أن تقدم المعارضة صورة مغايرة، لتعزيز مصداقيتها في أذهان المواطنين السوريين والعالم بأسره. الجماعات الإسلامية المتشددة لم تحتج إلى إذن لدخول العراق وليبيا وأفغانستان واليمن والجزائر وباكستان، ولذلك لن تحتاج إلى إذن لدخول سورية، أو أي مكان آخر تريد فيه ممارسة عقيدتها الجهادية ضد أنظمة ترى أنها غير إسلامية. بات لدي اعتقاد راسخ بأن قوة ثالثة تسللت إلى ميدان الأحداث في سورية، ربما من العراق والأردن ولبنان، وتحظى حاليا بتسليح من دول خليجية، وربما المملكة العربية السعودية، التي دعت إلى هذه الخطوة علنا، للتعجيل بإسقاط النظام السوري، تماما مثلما فعلت في ليبيا وأفغانستان واليمن. هذه القوى الجهادية الجديدة لا يتصدر التغيير الديمقراطي في سورية أو أي مكان آخر قمة أولوياتها، وليست لها أي علاقة بالربيع العربي وثوراته، فقد مارست عملياتها الجهادية قبل هذا الربيع بعدة عقود، ولذلك هي خارج سيطرة المعارضة والنظام معا، وقد تنهي الاثنين في نهاية المطاف إذا ما نجحت في خططها. تنظيم جبهة «نصرة أهل الشام» وزع شريط فيديو اعترف فيه بمسؤوليته عن تفجيري دمشق وحلب الانتحاريين، إلى جانب تفجيرات أخرى مماثلة، وتحدث الناطق باسمها بلغة طائفية سنية، مؤكدا أن المسلمين السنة في سورية بحاجة إلى حماية من بطش المجموعة العلوية الحاكمة التي ستدفع الثمن غاليا. النظام السوري يستغل هذه العمليات الانتحارية لتصعيد تطبيقاته للحلول الأمنية الدموية، بينما المعارضة السورية، التي راهنت معظم فصائلها على التدخل الأجنبي، على غرار نظيرتها الليبية، تجد نفسها في مأزق كبير، لأن وجود هذه الجماعات على الأرض قد يؤدي إلى تأجيل، إن لم يكن إعادة النظر في أي خطط للتدخل خوفا من تكرار سيناريو العراق، حيث خسرت الولاياتالمتحدة خمسة آلاف قتيل وثلاثين ألف جريح وألف مليار دولار، وخرجت مهزومة وتاركة البلاد لحلفاء إيران. احتمالات التدخل العسكري الغربي في سورية ضئيلة في الوقت الراهن لعدة أسباب، فروسيا والصين تتربصان بأي قرار دولي يقدم الغطاء الشرعي له، وتشهران الفيتو لإحباطه، وسورية ليست ضعيفة عسكريا مثل ليبيا أو العراق اللذين تعرضا للحصار لسنوات قبل تغيير نظاميهما على أيدي قوات الناتو، والاهم من ذلك أن سورية ليست دولة نفطية أو غازية، ومعارضتها غير موحدة. وحتى لو كان هذا التدخل واردا، فإنه لن يتم في ظل موسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وقبل اتخاذ قرار حاسم بالتعاطي مع الملف النووي الإيراني، فأمريكا وحلفاؤها لن يخوضوا حربا الآن في سورية وبعد ستة أشهر في إيران، ولذلك لن تتضح هذه المسألة إلا بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية مطلع نونبر المقبل. وإذا كان الهدف البعيد للجماعات الإسلامية المتشددة هو إطاحة النظام السوري، فإن الهدف الأقرب هو نسف مهمة المبعوث الدولي كوفي عنان لإيجاد مخرج سياسي من الأزمة السورية في العلن على الأقل؛ فكيف يمكن إجراء حوار بين النظام والمعارضة في ظل وجود قوة ثالثة على الأرض تفرض وجودها بالتفجيرات والعمليات الانتحارية والسيارات المفخخة وخارج سيطرة الطرفين؟ سورية مقدمة على مرحلة خطيرة من الفوضى والحرب الأهلية الطائفية، وهي حرب ستضعف النظام وتقوّض أسسه، إذا لم تؤد إلى إسقاطه في نهاية المطاف. وما جرى في مدينة طرابلس في شمال لبنان ليس إلا نموذجا مصغرا لهذه الحرب، حيث تواصلت الاشتباكات المسلحة بين أبناء الطائفتين السنية والعلوية، وسقط فيها قتلى وجرحى من الجانبين بالتالي. الحرب الطائفية هذه، والنظام يتحمل المسؤولية الأكبر في انفجارها لمماطلته في الإصلاح الجذري، قد تتطور إلى حرب إقليمية تجرّ معظم دول المنطقة إلى حمم بركانها دون استثناء. وإذا كانت الحرب العثمانية الصفوية التي اندلعت عام 1514 قد استمرت قرنا، فكم ستستمر الحرب الإقليمية الطائفية الجديدة إذا ما اندلعت، وكيف ستكون صورة المنطقة أثناءها وبعدها؟