في حوار نشرته مؤخرا «ذي ماركر» و«هآرتس» الإسرائيليتين، بدا الجنرال بنيامين بن أليعازر عظيم القلق بشأن ما جرى ويجري في مصر، وتوقع حربا مقبلة على جبهة سيناء، وربما لم تكن مصادفة أن إسرائيل أعلنت تعبئة عسكرية على الحدود مع مصر بعد مرور 48 ساعة لا غير على نشر حوار بن أليعازر . شكا بن أليعازر في حواره الخطير من انقطاع الاتصالات بالمشير طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، وقال إنه كان يلتقيه بسهولة في زمن حكم مبارك، لكن القادة العسكريين المصريين لديهم حساسية فائقة الآن من أي اتصال بالإسرائيليين، واعتبر بن أليعازر أن قرار مصر وقف تصدير الغاز إلى إسرائيل سياسي وليس تجاريا، بل واعتبر أن اتفاق الغاز كان استراتيجيا بامتياز، وكان أهم لإسرائيل من اتفاقية السلام نفسها، ليس لأسباب اقتصادية، بل لأسباب سياسية، وتذكر بن أليعازر صديقه المخلوع مبارك بحسرة ظاهرة، واعتبر أن أحدا في مصر بعد خلع مبارك لم يعد يحب إسرائيل، وأن كافة مرشحي الرئاسة في مصر يزايدون على بعضهم البعض في كراهية إسرائيل، وبهدف جلب الشعبية وأصوات المصريين في الانتخابات الرئاسية الوشيكة . والحق أن حسرة بن أليعازر في موضعها تماما، وربما تبدو توقعاته عن الاتجاه لمواجهة حربية في مصر لافتة ومثيرة للانتباه، وتشير إلى فشل أولي لخطة احتواء الثورة المصرية في ما يخص إسرائيل بالذات، فقد كانت القراءة الإسرائيلية للثورة وما تلاها، وعلى نحو ما ذهبت إليه مراكز الأبحاث الاستراتيجية الإسرائيلية. كانت القراءة متشائمة عموما، وتتبنى تصورات للتعامل على مستويين، أولهما احتواء أثر الثورة المصرية على العلاقة بإسرائيل في المدى العاجل، والتركيز على دور واشنطن بالخصوص، وهو ما بدا ظاهرا أيضا في كلام بن أليعازر، والذي حذر الرئيس المصري المنتخب حال تنصيبه من المس باتفاقية السلام مع إسرائيل، وادعى أن الحفاظ على الاتفاقية أفضل لمصر المأزومة اقتصاديا، فالاتفاقية مرتبطة بالمعونة الأمريكية لمصر المقدرة، حسب بن أليعازر، بملياري دولار سنويا، وهو رقم قديم لم يعد صحيحا، فقد انخفضت المعونة العسكرية والاقتصادية الأمريكية إلى حدود مليار ونصف المليار دولار سنويا، ما علينا، المهم أن بن أليعازر يصور الجيش المصري كما لو كان غير مستعد ولا جاهز لخوض حرب، ويعاير الرئيس المصري المنتخب أيا كان اسمه بنقص أموال مصر التي لا تمكنها من تجهيز الجيش، وهنا يبدو بن أليعازر متجاوزا في التقليل من شأن الجيش المصري، وترديد أوهام إسرائيلية شائعة، ربما يغري بتصديقها توتر العلاقة السياسية بين المجلس العسكري والقوى الثورية في الشارع والبرلمان، ورفض كثيرين -بينهم كاتب السطور- لسياسة المجلس العسكري الداخلية، الموالية عموما لخط وجماعة مبارك، لكن الموقف من إسرائيل شيء مختلف تماما، فكل المصريين وراء جيشهم في أي مواجهة محتملة مع إسرائيل، والعقيدة القتالية للجيش المصري ظلت على ما هي عليه بعد ثلاثين سنة من عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، عقيدة الجيش القتالية أن كيان الاغتصاب الإسرائيلي هو العدو الأول، وأن الخطر الأعظم على مصر يأتي من حدودها إلى الشرق، وأن قضية فلسطين قضية وطنية مصرية، وكل خرائط مناورات الجيش المصري تؤكد ثبات عقيدته القتالية، على نحو ما دلت عليه مناورات الجيش الأخيرة في سيناء. وقد انطوت على رسالة قوية لإسرائيل بالذات، والتي تركز على ما تسميه انهيارات الأمن في سيناء، وعلى تحولها إلى مرتع لما تسميه «كل الجماعات الإرهابية» على حد تعبير بن أليعازر، فإسرائيل فقدت مبارك الذي كان «أعظم كنز استراتيجي» لها على حد تعبيرٍ شهيرٍ لبنيامين بن أليعازر نفسه، ولم يعد ما كان من هوان مرشحا للاستمرار، ويكفي أن تحركا شعبيا تلقائيا اقتحم وأغلق سفارة إسرائيل على نيل القاهرة، ولا يجد السفير الإسرائيلي الجديد يعقوب بن أميتاي مكانا بديلا لسفارته إلى الآن، ثم إن الجيش المصري اخترق ترتيبات نزع السلاح في سيناء، ويزيد باطراد من عدد قواته وسلاحه في المنطقة منزوعة السلاح كليا غرب الحدود المصرية مع فلسطينالمحتلة. والمعروف أن ترتيبات الأمن الملحقة بما يسمى معاهدة السلام قد نزعت سلاح غالب سيناء وقسمتها إلى ثلاث مناطق، المنطقة (أ) إلى شرق قناة السويس بعمق أقل من ستين كيلومترا، وتقرر وضع فرقة مشاة ميكانيكية مصرية واحدة فيها بإجمالي 22 ألف جندي، ثم المنطقة (ب) بعمق 109 كيلومترات، وتقرر وضع أربع كتائب حرس حدود فيها، ثم المنطقة (ج) شرق سيناء بعمق 33 كيلومترا، وتقرر طبقا للمعاهدة منع وجود أي جندي عسكري مصري فيها، ثم تعدل الوضع قليلا أواخر 2005، وجرى الاتفاق على وضع 750 جندي حرس حدود فيها، وبعد الثورة المصرية جرى الدفع بلواءات كاملة إليها، أضف إلى ذلك أن المعاهدة المشؤومة منعت إقامة أي موانئ أو مطارات حربية مصرية في سيناء كلها، هذا فضلا عن انتشار قوات متعددة الجنسيات بقيادة أمريكية في ثلاث نقاط بسيناء، ولاحظ عزيزي القارئ أن سيناء وحدها ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين التاريخية كلها، وفراغ السلاح المصري فيها مما لم يعد ممكنا قبوله ولا استمراره، خاصة مع تصاعد نبرة التهديدات العدوانية وصيحات الحرب الإسرائيلية ضد مصر، فقد لا يسعى المصريون إلى الحرب الآن، لكنهم جاهزون لقبول ضرائبها حين تفرض، واستعدادهم لدعم الجيش بلا حدود، وكل القوى الوطنية تطلب إنهاء سيرة المعونة الأمريكية المذلة التي لا تساوي في قيمتها الإجمالية عشرة في المائة من ثروة ملياردير مصري واحد، لكنها تنتهك استقلال مصر الوطني، وتضعف مقدرة الجيش على تنويع مصادر سلاحه، وحفظ أسراره، وتطوير برامج الردع الكفيلة بتحقيق النصر لمصر في أي حرب مقبلة مع إسرائيل. وبالرغم من وجود عقبات كثيرة في طريق الثورة المصرية، فإن خطة احتوائها إسرائيليا تبدو مرشحة لفشل عظيم، وهو ما تستشعره إسرائيل ذاتها وتعجل بسببه في الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني، أي من الاحتواء الذي لا يبدو ممكنا إلى المواجهة التي تبدو محتومة، وهو ما يفسر إعلان التعبئة الإسرائيلية على حدود مصر، وزيادة ميزانية الحرب، وإعادة بناء تشكيلات قتالية كان قد جرى تفكيكها، فلا يبدو تلاحق الحوادث في مصر مما يسر إسرائيل، وقد تلجأ إسرائيل إلى ضربة إجهاض أو إلى استفزازات على الحدود، تريد بها أن تختبر ردود الفعل، أو أن تستثمر اضطرابا باديا في الساحة المصرية الداخلية، لكنها إن فعلت تكون قد ارتكبت الخطأ القاتل، فرد الفعل المصري على أي عدوان مسلح لن يكون هينا، ليس رد فعل السلاح فقط، بل رد فعل السياسة بالأساس، ووقتها لن يكون رد الفعل أقل من إلغاء اتفاقية السلام ذاتها، وإعادة رسم خرائط المنطقة كلها