كان اللقاء مغلقا في مكتب مسؤول أمني مصري كبير، وكان التقرير المعروض على مكتبه واردا من جبهة حرب حقيقية شرق سيناء. أطلعني المسؤول الأمني على فحوى التقرير، بدت القصة مذهلة، فهي تتحدث عن تكرار تسلل شخص أمريكي بجنسية إسرائيلية يسبح بحرا من إيلات عبر خليج العقبة إلى شواطئ جنوبسيناء، ولأربع مرات توالت، ودون أن تكون لديه أوراق ثبوتية من أي نوع، ودون أي إذن بالدخول، ولا تملك السلطات المصرية فرصة اتخاذ أي إجراء ضده، بدت الحالة المحددة عنوانا لحالات لا تعد ولا تحصى، حالات من الاختراق السهل المجاني للحدود. والأغرب من القصة كان في تفسيرها، فالتقرير يعزو السبب إلى أوامر سيادية توقف مراقبة المصريين للحدود كل ليلة، ومن ساعة غروب الشمس إلى ساعة الشروق، ويستطرد التقرير مبينا سبب عدم المراقبة الليلية، وهو التزامات فرضت على مصر بمقتضى ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التقرير العجيب أصاب المسؤول الأمني الكبير بالدهشة، فهو حديث العهد بشغل وظيفته القيادية، وقد استفز التقرير حواسه الأمنية ومشاعره الوطنية التلقائية، ووضع تأشيرة حازمة على التقرير كنت شاهدا عليها، وأمر بتعيين حراسة دائمة على الحدود نهارا وليلا، وحتى لو كان ذلك مخالفا لنصوص وملاحق معاهدة السلام. بدت الخطوة جريئة من مسؤول بارز في الحكومة المصرية بعد الثورة، فهي تغلق ثغرة بدت كدليل مضاف على خيانة مبارك لأبسط أبجديات الأمن المصري، وتركه لحدود مصر مفتوحة أمام أي اختراق إسرائيلي، وبدون أدنى رقابة مصرية، وهو ما يتضمن بالبداهة إذن عبور لأي إسرائيليين أو أي أسلحة أو أي مخدرات، وبتسهيلات تجاوز نص الوثائق المنشورة من معاهدة السلام إياها، وتومئ إلى التزامات شفهية إضافية من قبل الرئيس المخلوع، تفسر مع غيرها سر حرارة المحبة لمبارك من قبل المسؤولين الإسرائيليين، والذين ظهروا في حالة حزن كظيم مع بدء محاكمة مبارك وكرروا وصفهم للمخلوع بكونه الصديق العظيم، و«أعظم كنز استراتيجي» على حد التعبير المشهور للجنرال بنيامين بن أليعازر، أو «أهم رجل في حياة إسرائيل بعد المؤسس بن جوريون» على حد وصف شيمون بيريز رئيس إسرائيل الحالي . والواقعة، ورد فعل المسؤول الأمني عليها، يشيران فوق تأكيد خيانات مبارك إلى روح جديدة في الإدارة المصرية تجاه إسرائيل، فقد جاءت الفكرة بعد السكرة وبدأت عملية واسعة لإعادة فتح ملف الالتزامات الأمنية المهينة في سيناء، وكلها مصممة لخدمة هدف واحد، وهو صيانة أمن إسرائيل وتفريغ سيناء من السلاح والأمن المصري، فقد جرى بحسب ملاحق المعاهدة تقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق، أولاها المنطقة (أ) شرق قناة السويس، وعمقها أقل من 60 كيلومترا، وتقع كلها غرب خط المضايق الاستراتيجي، وهذه هي المنطقة الوحيدة في سيناء المسموح فيها بوجود قوات للجيش المصري، وفي صورة فرقة مشاة ميكانيكية واحدة، وبتسليح محدد جدا، أي أن الخط الأمامي لوجود الجيش المصري محدود بمنطقة غرب سيناء، وعلى مسافة حوالي 150 كيلومترا من خط الحدود المصرية مع فلسطينالمحتلة. وفي هذا الخلاء الاستراتيجي الواسع، والذي تصل مساحته إلى ما يقارب أربعة أضعاف مساحة فلسطينالمحتلة كلها، في هذا الخلاء لا يسمح بوجود للجيش المصري، فوق أن سيناء كلها حسب المعاهدة المشؤومة خالية من أي مطارات أو موانئ عسكرية مصرية، وغير مسموح فيها بحركة للطائرات المقاتلة المصرية. وعلى الأرض، جرى تحديد المنطقة (ب) في قلب سيناء، وبعرض 109 كيلومترات، ولا يسمح فيها بوجود لغير كتائب من حرس الحدود المصري، إجمالي عددها 4000 فرد لا غير، وتبلغ المأساة ذروتها في شرق سيناء، حيث المنطقة (ج)، وإلى عمق 33 كيلومترا من خط الحدود، ولا يسمح فيها بوجود للقوات المسلحة المصرية، بل يسمح فقط بوجود لقوات الشرطة، وفي معادلة شلل تام، لم يجر عليها أي تغيير سوى في أواخر عام 2005، حين جرى الاتفاق المصري الإسرائيلي على إضافة 750 جنديا مصريا من حرس الحدود، وبغرض محدد هو مراقبة الحدود المصرية مع غزة ومحاربة ما أسمى وقتها بتهريب السلاح عبر الحدود أو من خلال الأنفاق، وفي الوقت الذي تغيب فيه القوات المسلحة المصرية، فقد تقرر الوجود الأجنبي العسكري طبقا لملاحق المعاهدة المشؤومة، وفي صورة قوات متعددة الجنسيات، غالبها أمريكي وبقيادة أمريكية، في معسكر «الجورة» شرق سيناء، وعلى جزيرة تيران في خليج العقبة، وبهدف مراقبة التزام مصر بالترتيبات الأمنية المهينة في سيناء، وتلتزم مصر على سبيل النكاية بتسديد نصف النفقات السنوية للقوات الأجنبية، ويجري اقتطاع المبلغ من حساب المعونة الأمريكية المقررة لمصر. وربما لا يوجد داع إلى تفسير إضافي، فالترتيبات تشرح نفسها بنفسها، ومغزاها الكلي واضح، وهو نزع سيادة السلاح المصري على جبهة سيناء، ثم نزع سيادة القرار في القاهرة بترتيبات وشروط المعونة الأمريكية الضامنة، أي أن مصر كلها وضعت في القيد، وتحولت إلى مستعمرة سياسية أمريكية بالتحكم في قرارات القاهرة، ثم إلى بلد موضوع قصدا تحت تهديد حد السلاح الإسرائيلي عند الحدود، وسيناء عارية مفتوحة أمامه لأي غزو محتمل، وفي غضون ساعات، وهي المصيبة التي شغلت تفكير قادة القوات المسلحة المصرية وأعدوا لها خططا استثنائية، لا يسمح المجال بالطبع بأي إشارة إليها، فالمصيبة سياسية، والعبء الإضافي موضوع على عاتق القادة العسكريين الذين آلت إليهم أقدار السياسة بعد خلع مبارك. الوضع، المأساوي استراتيجيا، في سيناء جعل أمر مصر كلها في مهب الريح، وإن كانت الثقة تامة في كفاءة قواتنا المسلحة وفي خططها الاحتياطية البديلة ساعة تفاقم الخطر الإسرائيلي، غير أن المخاطر الأخرى بدت سارية، وتراكمت عبر الثلاثين سنة الفائتة، فقد انتهى تفريغ سيناء من السلاح إلى خطر وجودي آخر، وبدت الإدارة المصرية في سيناء على حال الشلل المقيم، وبدا تحكم القاهرة في حده الأدنى، اللهم من حملات أمنية عابرة زادت الأوضاع سوءا، وغدت عند قبائل سيناء نفورا مضافا من قوات الأمن، والتي لا تتفهم حساسية التركيب القبلي في سيناء ولا تقدر دور الأعراف والتقاليد المستقرة وتصطنع أعوانا من أبناء القبائل خارج التكوين العرفي، وهو ما أثر بالسلب على كفاءة وكفاية النظم العرفية ذاتها والتي تتفهمها قوات الجيش المغيبة قسرا بأثر من أحكام المعاهدة المشؤومة، والمحصلة مزدوجة، فقد تردت سيطرة الإدارة المركزية في القاهرة، وتراجع دور النظام القبلي العرفي التقليدي، مقابل تفشي سيطرة جماعات سلفية مريبة، كادت تنفصل بشرق سيناء عن أحوال المجموع المصري، وهو ما يفسر بعض دواعي حملة أمنية مصرية غير مسبوقة في حجمها، تنفذ الآن خطة شبه عسكرية حملت اسم الخطة «نسر»، وتهدف إلى استعادة بعض سيادة القاهرة المفقودة في سيناء.