قد يصح أن نعتذر إلى الخيانة نفسها، فلم يعد لفظ الخيانة ملائما لوصف الانحطاط والتدهور الذي آلت إليه سياسة النظام المصري. وربما لا يليق أن ننعت النظام بصفة «المصرية»، فليس لنظام مبارك من المصرية شيء، اللهم معنى الجنسية، وليس صحيحا أن النظام يبني سياسته على مبدأ «مصر أولا»، بل تبنى له السياسة على أساس مبدأ «إسرائيل أولا»، في مصر، فوجود النظام في ذاته يتناقض مع أبسط معايير الوطنية المصرية، فمصر دولة دور، ومعاركها الوجودية الكبرى دارت إلى ما نسميه الشرق العربي الآن، ومن «قادش» رمسيس إلى «مجدو» تحتمس، وإلى «حطين» صلاح الدين، وإلى «عين جالوت» قطز، وإلى معارك إبراهيم باشا ساري عسكر عربستان، وإلى معارك عبد الناصر العسكرية والسياسية، وإلى حرب أكتوبر 1973، بعدها انزلقت مصر إلى «الثقب الأسود»، وإلى انحطاط تاريخي نهبت فيه ثرواتها، واستذل أهلها، ونزلت إلى قاع التاريخ الجاري، خرجت من سباق الأمم، وصارت مجرد عزبة لعائلة السياسة الفاسدة وأغواتها ومماليكها ومليارديراتها. ومن العبث مع هذه الظروف أن نتحدث عن سيادة مصر وكأنها سيادة الرئيس، أو سيادة العائلة، فوجود الرئيس في ذاته، وبالطريقة التي يحكم بها، هو انتقاص من سيادة مصر، فلم ينتخبه أحد في مصر ولا فوضه شعبها، بل يحكم بتفويض أمريكي إسرائيلي، وينفذ ما يطلب منه بالحرف، ويدفع لحساب إسرائيل لكسب رضى «الباب العالي» في واشنطن، ومقابل أن يبقى له الحكم ولذريته ومماليكه من بعد. وربما يلفت النظر أن أحمد أبو الغيط، وزير خارجية الرئيس، يعلن أخطر القرارات من واشنطن لا من القاهرة، وعلى طريقة إعلانه الأخير من واشنطن عن قرار المنع التام لقوافل الإغاثة إلى غزة، فقرارات النظام «السيادية» الكبرى تصنع في واشنطن، وتعلن هناك، وإن كان يسمح أحيانا بإعلانها من القاهرة على سبيل التمويه، وتلك قصة مريرة طويلة بدأت عقب حرب أكتوبر 1973، وخذلان السياسة لإنجاز السلاح، فقد بدا كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الصهيوني الشهير، مأخوذا بتنازلات الرئيس السادات، وفي غرف المفاوضات المغلقة بالذات، ففي كتابه (أكتوبر 1973: السلاح والسياسة)، يروي محمد حسنين هيكل، المقرب وقتها من السادات، واقعة مذهلة، فقد عرض السادات على كيسنجر ما لم يتوقعه الأخير في حياته، قال له: إن جاءتكم فكرة أو مبادرة فأعطوني إياها، وأنا أعلنها باسم مصر، لماذا؟ لأنها إذا أعلنت باسم واشنطن وقبلتها، فسوف يتهمني المصريون بالتبعية، وإذا أعلنت باسم إسرائيل، وقبلتها، فسوف يرميني المصريون بتهمة الخيانة، والحل: أن أعلنها باسم مصر، وتبدو مبادرة مصرية ونجاحا مصريا. وعلى طريقة «تمصير» الرغبات الأمريكية والإسرائيلية، يمضي الرئيس مبارك، فرغبات واشنطن تبدو كأنها مبادرات القاهرة، وتبدو سيادة إسرائيل كأنها سيادة مصر، مع أن القاصي والداني يعلم بأنه لا دخل لمصر في الموضوع، وأن اسم مصر له المجد في العالمين بريء من تنازلات العائلة الحاكمة، وأن سيادة مصر الحقيقية منتهكة ومضيعة منذ زمن طويل، لا نتحدث عن أسرار، بل عن حقائق مفزعة مدونة في الملاحق الأمنية لما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، فبعد حرب أكتوبر 1973 مباشرة، كان لمصر 70 ألف جندي في سيناء إلى شرق قناة السويس، وكان لها ألف دبابة، ونزل التعداد باتفاقي فض الاشتباك الأول والثاني إلى سبعة آلاف جندي وثلاثين دبابة لا غير. وبعد مقايضات المعاهدة المذلة، صارت الصورة مرعبة، فقد جرى حجز الوجود العسكري المصري بفرقة مشاة ميكانيكية واحدة إلى مسافة 58 كيلومترا شرق قناة السويس، وعرفت هذه المنطقة في ملاحق المعاهدة باسم المنطقة (أ)، ثم جرى إخلاء المنطقة (ب)، وبعرض 109 كيلومترات، من أي وجود عسكري مصري سوى أربع كتائب حرس حدود، وفي المنطقة (ج)، وبعرض 33 كيلومترا، وإلى حدود مصر مع فلسطينالمحتلةوغزة، جرى نزع السلاح المصري بالكامل، وقصر الوجود على قوات شرطة مدنية، ولم تسمح إسرائيل إلا لاحقا، وفي اتفاق سبتمبر 2005، بوضع سوى 750 جنديا من حرس الحدود، وبغرض محدد هو مطاردة وردم «أنفاق الحياة» الواصلة من رفح المصرية إلى رفح الفلسطينية، وفي كل سيناء جرى حظر إقامة أي مطارات أو موانئ حربية مصرية، بل إن مقر إقامة الرئيس نفسه في شرم الشيخ يقع في المنطقة منزوعة السلاح المصري بالكامل، أي أن الرئيس يقيم في منطقة منزوعة السيادة المصرية، وتحت حد الحراب الإسرائيلية القريبة، وفي وسط تشكيل من قوات متعددة الجنسيات، وتعرف باسم MFO، أو «ذوي القبعات البرتقالية»، وغالب هذه القوات أمريكي، وقيادتها أمريكية، وتدفع مصر نصف ميزانيتها البالغة سنويا 65 مليون دولار، ولهذه القوات ثلاث قواعد، أولاها في «الجورة» شرق سيناء بالقرب من الحدود، وثانيتها في جزيرة «تيران» السعودية بخليج العقبة، وثالثتها إلى جوار شرم الشيخ، ووظائف هذه القوات الأجنبية معروفة، فهي تراقب أي إخلال محتمل بترتيبات نزع سلاح سيناء، ولها حق التدخل عند اللزوم، والبدء في تطبيق مذكرة تفاهم أمريكية إسرائيلية موقعة في 25 مارس 1979، أي قبل أيام من توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وتتضمن تعهدا أمريكيا بالتدخل عسكريا ضد مصر في حال تهديد أمن إسرائيل. ماذا تعني هذه الصورة؟ تعني ببساطة أن قصة السيادة المصرية من أحاديث الخرافة، وأن الموجود هو العكس بالضبط، فقد أعيدت سيناء إلى مصر منزوعة السيادة، أعيدت على طريقة الذي أعادوا إليه قدما وأخذوا عينيه، فقد جرى نزع سيادة السلاح في شرق مصر، وفي القاهرة تكفلت المعونة الأمريكية ومضاعفاتها بالباقي، أعادت تشكيل نخبة الحكم والمال، ونزعت سيادة قرار السياسة والاقتصاد، وضعت مصر في قيد الحديد، ووضع على فمها قفل بيت الرئاسة، وراحت مواردها تنهب كما لم يحدث في تاريخها الألفي، وطفت وطغت طبقة من مليارديرات المال الحرام، فيما تحول الشعب المصري في غالبه إلى أفقر شعب في المنطقة، وبين الثراء الناهب والفقر الكادح، جرت إقامة أضخم جدار أمني، جدار مصفوف من العسكر السود والخوذات السوداء، وبحجم مهول وصل بقوات الأمن الداخلي إلى مليون و700 ألف شخص، وهو ما يتعدى ثلاثة أضعاف حجم جيش مصر العظيم. والمحصلة ظاهرة، مصر تحت الحصار، تماما كما أن فلسطين تحت الحصار، وجدار العار عند الحدود هو امتداد لجدار القمع في القاهرة، ولا أحد تحت الحماية سوى العائلة ومليارديراتها ورعاتها الأمريكيين والإسرائيليين، أما مصر - بغالب أهلها- فقد انتهت إلى عين الرعب، وإلى خلط البصائر والمصائر، وإلى سحابة دخان كثيف تطلقه وسائل الإعلام المملوكة للنظام وأجهزة أمنه ومليارديراته، وإلى عبث عقلي بلا آخر، وإلى زحام من مشاهد الدم، وإلى حديث عن سيادة البلد وكأنها سيادة الرئيس. هل يتبقى بعد ذلك من معان محددة مفهومة لعبارات من نوع الأمن القومي وسيادة مصر؟ وهل يجرؤ النظام على إعلان الحقيقة في سيناء؟ أو على إشهار الذمة المالية للعائلة والأصهار والأصحاب؟ بالطبع لا يجرؤ النظام على شيء من ذلك، وربما لا يصح أصلا أن تسأله في شيء أو عن شيء، فاختصر الطرق، واسأل رعاته في واشنطن وتل أبيب، إسأل في العناوين الحرام عن نظام ولد ويعيش في الحرام.