رغم أن منطقة كتامة تزخر بمناظرها الطبيعية الخلابة التي تأسر زائريها، إلا أنها ما زالت ترتبط في أذهان العديدين بكونها «مهد زراعة القنب الهندي»، أما أبناؤها فهم «متهمون» إلى تثبت براءتهم، على حد تعبير أحد سكان «كتامة». وعكس الأفكار المسبقة عن المنطقة وسكانها، فليست هناك أية علامات للغنى والرفاه: فالسكان يرتدون ملابس قروية بسيطة أما المنازل فهي أقرب إلى الأكواخ، قلة منها مربوطة بالكهرباء.. «المساء» تقودكم في هذا الربورطاج في زيارة إلى «عاصمة الحشيش المغربي». محطة التاكسيات "باب الفتوح" في مدينة فاس. تربط سيارات الأجرة هنا بين المدينة ومجموعة من القرى والمدن الموجودة في محيط العاصمة العلمية للمملكة. أغلب الزبناء معروفون لدى السائقين، بحكم أنهم من أبناء المناطق القروية المجاورة لمدينة فاس، ممن اضطرتهم الظروف إلى مغادرة مدنهم وقراهم للبحث في فرص الشغل التي توفرها لهم المدينة. بعد دقائق معدودات، انطلقت بنا سيارة الأجرة، بعد أن اكتمل "نصابها القانوني". داخل سيارة الأجرة، تعالى صوت أحد المطربين الشعبيين من المسجل القديم، وهو يغني على إيقاع آلة "لُوتار": "وايلي وايلي.. واخا منها نمشي... على كتامة ما نتبدلشي... وايلي وايلي".. لحن ذكّر الركاب بأغاني "ملك لوتار"، الراحل محمد رويشة. عندما وصلت السيارة إلى أحد المنعرجات، كسر السائق الصمت الذي كان مخيما على الركاب منذ الانطلاقة: "هنا انقلبت السيارة التي كانت تقل مجموعة من الشباب قبل يومين، وقد سمعت أنهم كانوا يسوقون تحت تأثير الخمر والمخدرات، بعدما قضوا ليلة حمراء في مدينة فاس".. صدرت عن البعض همهمات غير مفهومة، بينما بدا على الآخرين نوع من اللا مبالاة. ثلاث ساعات من السفر قطعتها السيارة مخترقة الجبال، انخفضت خلالها درجة الحرارة تدريجيا، إلى أن وصلت المركبة إلى الوجهة التي كنا نقصدها: مرحبا بكم في كتامة، "عاصمة الحشيش" المغربي. كتامة في قلب التاريخ أول ما يجذب انتباه الزائر هو الطبيعة الخلابة التي تأسر الزوار، من أول نظرة، وأشجار الأرز، التي تصطفّ على جنبات الطريق، مما يضفي على المنطقة جمالا وهدوءا ساحرين. عكس الأفكار المسبقة التي يحملها الكثيرون عن سكان المنطقة، فإنه لا تبدو على أغلب السكان هنا أي آثار لوفرة المال: ملابس قروية بسيطة ومنازل أقرب إلى الأكواخ، قلة منها فقط موصولة بالكهرباء. تقول بعض المصادر التاريخية إن قبائل "كتامة" كانت تمتد إلى الجزائر وإن هذه القبائل ساهمت في قيام الدولة الفاطمية في مصر، حيث ما زال هناك حي يسمى حي "الكتاميين".. يلاحظ الباحثون في مجال التاريخ غياب هذا المعطى عن المؤرخين المغاربة، وهو ما يرجعونه إلى الضغوط الممارسة عليهم من النظام السياسي في المغرب، بحكم أن الدولة الفاطمية كانت تتبنى المذهب الشيعي، عكس المذهب السني، السائد في المغرب منذ قرون. رغم أن المنطقة محسوبة ترابيا على جهة الحسيمة، فإن السكان هنا لا يتحدثون الريفية، وإن كانت ملامحهم أقربَ إلى ملامح سكان منطقة الريف. "هناك عداوة قديمة بين الكتاميين وسكان الريف"، قال لي مرافقي من أهل المنطقة، قبل أن يضيف موضحا كلامه: "ما زال الريفيون ينقمون على سكان كتامة إلى اليوم، لأنهم يعتبرونهم السبب المباشر لنجاح الحملة التي قادها الملك الراحل الحسن الثاني لقمع انتفاضة الريف سنة 1959، بسماحهم للآليات العسكرية بالمرور عبر المنطقة، وهذا ما يتجلى في "الاحتقار" الذي يعامل به السكان كلما لجؤوا إلى مدينة الحسيمة، طلبا لخدمة غير متوفرة في منطقتهم". خلال جولتنا في المنطقة رفقة بعض الفاعلين الجمعويين، وقفنا على هشاشة البنيات التعليمية والصحية، فالإعدادية الوحيدة في المنطقة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، أما أقرب ثانوية فإنها تبعد عن الساكنة بحوالي 9 كيلومترات ولا تضم سوى قسمين اثنين، إضافة إلى أن المستوصف الوحيد في المنطقة فيه آلات لا يوجد مختص يستطيع تشغيلها، مما يجعل الساكنة تلجأ إلى الحسيمة أو فاس طلبا للخدمات الطبية. لعنة "كتامة" يتوجه أبناء المنطقة، ممن يحالفهم الحظ في إكمال دراستهم، في الغالب، إلى مدينة فاس لإتمام دراساتهم الجامعية. تبدأ معاناتهم بمجرد ما يعلم المحيطون بهم أنهم من أبناء منطقة كتامة. "أكره نظرات الريبة والنفور التي تحاصرني في الفصل واللمز والغمز اللذين يتمان من طرف أصدقائي كلما تحدثنا عن المناطق التي يتحدر منها كل واحد منا"، يقول أحمد، الطالب في كلية الحقوق في مدينة فاس، والذي تصادف وجودنا في المنطقة مع قضائه عطلة نهاية الأسبوع في بيت العائلة. يؤكد أحمد أن معاناة الطلبة المتحدرين من منطقة "كتامة" لا تقف عند حدود الحرم الجامعي، بل تتعداه إلى كل مناحي الحياة: "تبدأ معاناتنا مع إيجاد محل للكراء، فبمجرد ما يعرف صاحب المنزل أننا من كتامة، يرفض منحنا السكن بحجة أن "فلوسنا موسّخينْ".. أو في أحسن الأحوال يطلب ثمنا مرتفعا، نظرا إلى الأفكار المسبقة التي يحملها الناس عنا، لكوننا "مرفحين"، لأن آباءنا يبيعون "الكيف"!.. تدفع هذه "اللعنة" العديد من سكان المنطقة إلى تسجيل مواليدهم في مدن أخرى، خوفا عليهم من الآثار المستقبلية التي قد تنتج عن حملهم "جنسية" كتامة في بطائقهم الوطنية، مما يعني إدانة مسبقة لهم. بل أكثر من ذلك، هناك من السكان من لا يتوفرون إلى الآن على بطاقة التعريف الوطنية، بل ولا على أي وثيقة إدارية، مما يعني أن عائلات بأكملها ما زالت تعيش خارج كشوفات الدولة الرسمية، وهو يهدد مستقبل أطفالها في العيش بطريقة قانونية. فهل هذه "اللعنة" هي الوحيدة المسؤولة عن هذه الوضعية؟.. أحرار إلى حين.. "جميع سكان كتامة معتقلون موجودون في حالة "سراح مؤقت"، بهذه الجملة لخص عبد الحق (اسم مستعار لفلاح) الوضعية التي يوجد عليها سكان المنطقة، على اعتبار أن جلهم مبحوث عنهم بتهمة واحدة: زراعة القنب الهندي والمتاجرة فيه.. تهمة يؤكد عبد الحق أن جهات متنفذة تستعملها لضمان استمرار سيطرتها على المحاصيل الزراعية للفلاحين الصغار، وهي في ذلك تستخدم الالتباسات الموجودة في القانون لخدمة مصالحها الاقتصادية، في ظل حماية من اللوبيات المتنفذة والمستفيدة من الوضع القائم على اللا منع واللا تقنين. أجمع مجموعة من الفلاحين الذين استقت "المساء" شهاداتهم على أن "مافيات" تعمل بالتنسيق مع مجموعة من القطاعات الحساسة، من أجل استغلال المزارعين البسطاء وسلبهم محاصيلهم بالثمن الذي يفرضونه عليهم، وهو ما يجعلهم دائما تحت رحمتهم. تضم هذه الشبكات -حسب المزارعين والفاعلين الجمعويين في المنطقة دائما- "أعضاء بارزين في أحزاب سياسية كبرى، أو في الدرك والمندوبية السامية للمياه والغابات، التي تتكلف بإنجاز محاضر متابعة للفلاحين الذين يرفضون الرضوخ لضغوطات هذه المافيات". يعتبر الفلاحون هذه المحاضر غير قانونية، وهو ما يؤكده محمد الأعرج، أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في مدينة فاس وممثل المنطقة في البرلمان، على اعتبار أن "قانون المياه والغابات لسنة 1917 لا يعطي للمندوبية الحق في إنجاز محاضر قضائية، مع تسجيل اختلالات في حق الدفاع الذي يكفله القانون للمتهمين في غالب الأحيان، وهو ما يستوجب تحيين القوانين، التي تعود، في غالبيتها، إلى المرحلة الخليفية، بالتزامنمع الاستعمار الإسباني للمنطقة". أثيرت نفس القضية على لسان نور الدين مضيان، النائب الثاني عن المنطقة ورئيس الفريق الاستقلالي في مجلس النواب، أثناء إحدى الجلسات، وهو ما استجاب له وزير العدل عبر إعطاء أوامره لمختلف محاكم المملكة بعدم الأخذ بالمحاضر المُنجَزة من طرف المندوبية السامية للمياه والغابات. "بوغابة".. عدو الفلاحين أغلب الأراضي في منطقة كتامة هي أراضي جموع، وتقوم على جلها نزاعات بين السكان والمندوبية السامية للمياه والغابات، والتي يلقبها السكان هنا ب"بوغابة"، نظرا إلى رفض هذه الأخيرة تحديد الملك الغابوي وتهجمها، المتكررَ، على أراضي السكان. ورغم أن بين هؤلاء من يملكون رسوم ملكية الأراضي، فإن المحافظة العقارية لا تقبل بهذه الرسوم لتحفيظ أراضيهم، نظرا إلى أن بعضها قديم ويرجع إلى بدايات القرن الماضي. يتم الحسم في أغلب المنازعات التي يدخل فيها السكان مع "بوغابة" بواسطة قوانين تعود في أغلبها إلى عهد الحماية، وهي قوانين يقول محمد الأعرج، أستاذ القانون الدستوري، "إن المستعمر الإسباني وضعها من أجل انتزاع الأراضي من سكان المنطقة، وما زالت مندوبية المياه والغابات تستخدمها لنفس الغرض، رغم أن السكان كانوا يتوفرون على ظهير خليفي منذ سنة 1919، يسمح لسكان منطقتي "كتامة" و"غمارة" بزراعة القنب الهندي.. إلا أن القانون الذي أصدره المستعمر الفرنسي، بعد ذلك، جعل المزارعين يدخلون في صراع دائم مع السلطات الاستعمارية، وبعدها مع السلطات المغربية بعد الاستقلال". وسط تبادل التّهم بين الفلاحين ومندوبية المياه والغابات، يبقى الوضع الحالي قائما إلى حين تدخل الدولة، من أجل إيجاد حل لصراع عمّر لأمد طويل، بين فلاحين مهددين في قوتهم اليومي ومسؤولي مندوبية أوكلت لها القانون مهمة الحفاظ على الغابات ومصادر المياه، فوجدت نفسها، بين عشية وضحاها، متهمة بالاستيلاء على ملك الآخرين، في غفلة ربما من القانون، وفي منطقة ما زال حضور الدولة فيها لا يتعدى بعض الرايات الوطنية وصور الملك المنتشرة هنا وهناك.
«الكيف».. الذهب الأخضر تمتد حقول نبتة "الكيف" الخضراء على مساحات غير منتظمة، حسب قربها من مصادر المياه، بما أنها تتطلب كميات كبيرة لسقيها. لا يؤثر مناخ المنطقة البارد، أبدا، في محاصيل "الكيف"، على عكس باقي المزروعات التي حاولت مصالح وزارة الفلاحة "تجريبها" في المنطقة، في إطار تشجيعها مجموعة من الزراعات البديلة، بهدف دفع فلاحي المنطقة إلى التخلي عن زراعة القنب الهندي. "جربوا هنا جميع أنواع المزروعات في إطار البحث عن زراعات بديلة، بدءا من أشجار الزيتون، وصولا إلى نبتة الزعفران، دون أن تستطيع أي من هذه المزروعات الاستئناس بتربة المنطقة ولا بالمناخ القاسي الذي يسودها صيفا وشتاء"، يقول الحاج أحمد، وهو شيخ طاعن في السن، غطت التجاعيد معظم أنحاء وجهه، ووخط الشيب ما تبقى من شعره، وإن كان في صوته وعينيه قوة تدل على ماض مليء بالمغامرات. قد يعتقد البعض، للوهلة الأولى، أن زراعة "الكيف" زراعة مربحة، لكن ما وقفت عليه "المساء" أثناء جولتها في المنطقة يبيّن المعاناة التي يلاقيها صغار الفلاحين من أجل عملية الإنتاج، والتي تتطلب التوفر على عمال متدربين -يأتون غالبا من خارج المنطقة-تكون لديهم خبرات خاصة في تقليب الأرض والتعامل مع نبتة "الكيف" في مختلف مراحل نموها، مع ما يتطلبه وجود هؤلاء العمال من مصاريف خاصة بإقامتهم وأكلهم. "قد يعتقد البعض أن الفلاحين هنا كلهم أغنياء، لكن الواقع أن الكثيرين منهم لا يكملون السنة الفلاحية إلا وقد أغرقتهم القروض".. يؤكد لنا الحاج أحمد بلهجة فيها الكثير من الأسف، مستدركا: "باسثناء بعض كبار الفلاحين، فإن الأغلبية هنا تعرف بحبوحة العيش لشهر واحد في السنة، وهو شهر يناير، لأنه يأتي مباشرة بعد "الحصاد"، فيما يعيشون في معاناة دائمة بقية شهور السنة، ليبقى المستفيد الأكبر من المحصول هم التجار وأعضاء شبكات الترويج داخل المغرب وخارجه". منذ سنوات والحكومات المتعاقبة على المغرب تتحدث عن وجوب تقنين عملية زراعة القنب الهندي، من أجل استخدام هذه النبتة في بعض الاستعمالات العلاجية والتجميلية، لكن عملية التقنين قد تصيب اقتصاد المنطقة في مقتل، ومعها رزق ما يقارب ال100 ألف أسرة، وهو العدد الذي توصل إليه آخر بحث أجرته وكالة تنمية أقاليم الشمال سنة 2003، بشراكة مع مكتب مكافحة الجريمة والمخدرات، التابع للأمم المتحدة. توصلت نفس الدراسة إلى أن زراعة القنب الهندي تمتد على مساحة تقارب 134 ألف هكتار، أي ما يعادل 27 % من المساحة الصالحة للزراعة في منطقة الريف، بإنتاج سنوي خام يتجاوز 47 ألف طن، وهو ما يعود على الفلاحين بأرباح تقدر بملياري درهم سنويا، بما معدله 20000 درهم لكل أسرة، وهو رقم ضعيف جدا مقارنة مع رقم المعاملات الذي يحققه القطاع، والذي يفوق 114 مليار درهم، وغالبا ما يتم تحقيقه من طرف شبكات الترويج الناشطة بين المغرب وأوربا. في السنوات الماضية، كان مكتب مكافحة الجريمة والمخدرات، التابع للأمم المتحدة، يقوم بشراء محاصيل الفلاحين من نبتة "الكيف" وحرقها، وهو ما كان يضمن لهم مداخيل جيدة، تعفيهم من البحث عن زبائن ل"سلعتهم"، مع ما قد يتخلل ذلك من مخاطر وضغوط من المافيات المسيطرة على سوق القنب الهندي. "الكل هنا يتمنى أن يتم تقنين زراعة الكيف، لأن ذلك سيعفينا من الرعب الدائم الذي نعيش فيه، عوض تضييع الوقت في محاولة التضييق على الفلاحين"، يقول أحمد، الطالب في كلية الحقوق، الذي رافقنا أثناء تجولنا بين حقول المنطقة.