السلطة المطلقة آفة تقتل البشر وتحطم آمال الإنسانية وتقضي على أي أمل في إقامة مجتمعات مزدهرة يحترم الإنسان فيها. وإنما جاءت الثورات العربية تعبيرا عن سخط تراكم عقودا ضد أنماط الحكم المطلقة التي تتحول الدولة وإمكاناتها فيه إلى أدوات في أيدي «الحكومة» ليس من أجل تسهيل مهمات الحكم وفق ما يرتضيه الشعب، بل لحماية الحاكم ضد مناوئيه. والدولة لديها من الإمكانات ما يفوق ما لدى القوى المعارضة مجتمعة، مهما كانت قوية. هذه الإمكانات توفرت في الأساس، عبر العقود والقرون، لتسهيل مهمات الحكم وتفعيل الدساتير والقوانين التي يفترض أنها وضعت بإرادة المواطنين، فإما أنهم كتبوها عبر ممثلين منتخبين لهم أو أقروها عبر استفتاءات حرة. ومن أهم الفروق بين سلطة الشعب وسلطة الفرد أن الأولى تستمد شرعيتها من الإقرار الشعبي ولا يمتلك أحد من أفراد ذلك الشعب سلطة مطلقة أو قرارا فرديا حاسما، وليسن لديه سلطات إلا وفق ما أقره الدستور الذي وضعه الشعب والذي يخضع بشكل مستمر للتعديل كلما اقتضت الحاجة. أما الحاكم المطلق فيرى الحكم حقا طبيعيا لا يحق لأحد منازعته فيه أو مناقشته حوله أو مساءلته عما يفعل ضمنه. هذا الحاكم لا يعتبر نفسه موظفا لدى ناخبيه، بل يعتبر نفسه صاحب الفضل على المواطنين، فهو الذي يوظفهم ويرعاهم وهو القادر على حرمانهم إن شاء. الحاكم في السلطة المشروعة المنطلقة من إرادة الشعب يميز بين شخصه وإمكاناته الذاتية والسلطة والصلاحيات الممنوحة له من قبل مواطنيه عبر مواد دستورية مقننة بشكل مفصل. أما الحاكم المطلق فيعتقد أن سلطته ذاتية وأنه هو الذي يحدد صلاحياته، وليس على المواطنين إلا الإقرار بها، ومن يعترض عليها يتعرض لأبشع أصناف العذاب؛ فلسان حاله يقول: أنا الدستور، أنا القانون، كما قال فرعون «ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». وبين السلطة المقننة والحكم المطلق تعيش الشعوب باحثة عن نمط حياة يوفر لها الأمن والاستقرار والاحترام والاعتراف بالإنسانية. المواطن في حالة السلطة المقننة يشعر بأنه صاحب القرار، ويحاسب الحاكم على تصرفاته لأنه موظف لدى الشعب، عليه أن يوفر «خدمة» لمواطنيه ضمن «القانون». بينما الحاكم المطلق يشعر بأن له الحق في استعباد مواطنيه، فردا فردا، عن طريق جلاوزته وأجهزة أمنه، وليس من حق أحد مساءلته عما يفعله. هذا الحاكم لا يعتقد أنه موظف لدى الشعب، بل إن المواطنين خدام له، يستطيع طردهم متى شاء وقطع أرزاقهم عندما «يسيئون الأدب» بمطالبته بما لم يعطهم إياه. هذا الحاكم المطلق لا يشعر بأنه مسؤول عن تحسين مستوى حياة مواطنيه؛ وعندما يتخذ خطوة إيجابية، فإن ذلك «مكرمة» ملكية أو رئاسية تفضل بها فخامته على المواطنين الفقراء. عاشت الشعوب العربية، وما يزال أغلبها يعيش، هذا الوضع الذي لا يرقى لأدنى مستويات الكرامة المطلوبة التي تضمنتها التشريعات الدولية، خصوصا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وعومل هذا المواطن بازدراء وطبقية واستعباد واستحمار أحيانا، حتى انفجر غيظا في ثوراته الشعبية التي انطلقت ضمن ما سمي «ربيع الثورات» العربية. وطوال نصف القرن الماضي، حظي هؤلاء الحكام بدعم مفتوح من قبل الدول الكبرى التي دخلت في «تعاقد» مع أنظمة الاستبداد، قدمت إليها بموجبه الدعم المطلق، السياسي والأمني وعلى صعيد العلاقات الدولية، وحمتها من طائلة القانون الدولي حتى عندما ارتكبت أبشع الجرائم في حق مواطنيها، وحرمتهم من أبسط حقوقهم. وما إن تحركت عقارب ساعة التغيير حتى انتفضت هذه القوى بزعامة الولاياتالمتحدة، لتمنع التغيير وتحافظ على من تبقى من الحكام. وربما سمحت بتغيير بعض شخوص تلك الأنظمة، ولكنها حافظت على أنظمة الحكم نفسها، ورفضت المساس بها، كل ذلك ضمن ما أصبح يسمى اصطلاحا «الثورة المضادة» التي ما تزال فصولها تتوالى حتى هذه اللحظة. هذه الثورة المضادة متواصلة لم تتوقف، بل أصبحت تتقن التلون وفق الحاجة، وتحسن أساليب الخداع والتضليل والتشويش. وما لم ينته هذا الوضع عن طريق ثورة ضميرية وفكرية واسعة النطاق في كافة أرجاء العالم العربي، فإن الثورات العربية جميعا مهددة بالفشل، حتى التي نجح منها كثورة تونس؛ فالمد الثوري يجب أن يتواصل بنقائه، بعيدا عن محاولات التشويش عليه أو حرفه عن مساره، أو تطويعه لكي يتعايش مع أنظمة الاستبداد، بعيدا عن أهداف الثورة المتمثلة أساسا في تغيير النظام واستبداله بآخر يمارس فيه الشعب الدور الأبرز في معركة التحرر والإصلاح. إن قوة أمريكا العسكرية والأمنية زادت الأوضاع تعقيدا لأنها غير مرشحة لطرح بدائل حقيقية للأنظمة الاستبدادية القائمة بسبب تاريخها الطويل في قمع الشعوب والعداء للثورات، والإصرار على الاحتفاظ بالأنظمة القائمة التي دعتها مرارا ل«الاصلاح» غير المحدد في أبعاده وأطره وآفاقه. وقد أثبت عام كامل من الثورات والتدخلات الخارجية أن الموقف الأمريكي كان معاديا للثورات ومضرا بها. وهناك موقفان متضادان للسياسة الأمريكية، وكلاهما أضر بالثورات. أولهما الموقف المضاد بشكل مباشر للثورة، وهو ما حدث في البحرين واليمن. فقد وقفت واشنطن بحزم مع نظامي البلدين بشكل مكشوف، وفي حالة البحرين كان موقفها أكثر بشاعة، إذ بعثت أسوأ شرطي في أمريكا حسب ادعاءات صحيفة «نيو ميامي تايمز» في 2007، لقمع الثوار بوحشية، ومعه شرطي بريطاني آخر لا يقل سوءا. هذا التدخل هو الذي جعل نظام الحكم في البحرين يرفض الإصلاح أو التطور أو التخلي عن سلطاته لصالح الشعب. أما الموقف الثاني فتمثل في التدخل المباشر، إما لتحويل الثورة إلى حرب طاحنة كما حدث في ليبيا أو إلى صراع مسلح بدا للآخرين أنه مدعوم بشكل مباشر من الولاياتالمتحدة كما حدث في سوريا، خصوصا بعد أن طاف السفير الأمريكي في عدد من المدن السورية، فاستطاع النظام، رغم استبداده، إظهار الوضع السوري على أنه ناجم عن تآمر خارجي اشترك السفير الأمريكي في تنفيذه، الأمر الذي أضر بالثورة بشكل كبير. أيا كان الأمر، فمن الصعب الاعتقاد بإمكان إصلاح الأنظمة العربية التي ترزح على صدور المواطنين وترفض مطالب الشعوب بالإصلاح والتطور.