لا جدال في أن المبادئ التي أرسى دستور المملكة لسنة 2011 على مقتضاها أحكام الباب السابع المتعلق بالسلطة القضائية قد أسست لتحول هام وغير مسبوق في بنية نظامنا القضائي، وهو تحول يعتبر مصدر فخر واعتزاز للعدالة والديمقراطية في بلدنا، سواء على مستوى تثبيت ركائز استقلال القضاء على قواعد صلبة أو على مستوى البنية الجديدة لتأليف المجلس الأعلى للسلطة القضائية وطبيعة اختصاصاته الموسعة، كما هي مدققة في الفصول من 113 إلى 116، أو في ما ذهب إليه من قواعد جاءت لتؤسس لضمان حسن سير العدالة وحقوق المتقاضين في الفصول من 117 إلى 128 بالغة الأهمية. بيد أن المنحى الذي سار فيه الفصل 57 يعتبر، في اعتقادنا الجازم، في حاجة أكيدة إلى التدقيق في مدى ملاءمته لمبادئ مرجعية وقارة في ذات الدستور، في إطار قراءة ديمقراطية وبشفافية. فواضح من الصيغة التي ورد بها الفصل 57: «يوافق الملك بظهير على تعيين القضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية» أننا أمام مقتضى دستوري ارتقى بالسلطة الاقتراحية، التي كانت مقررة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء في الدساتير السابقة، إلى سلطة تقريرية. وبالمقابل، فقد سحب هذا المستجد من الملك السلطة التقريرية التي كانت مقررة له، في هذه الدساتير السابقة، وحصرها في مجرد موافقة ملزمة على قرار التعيين؛ فعبارة «يوافق الملك» جاءت في النص العربي متطابقة، في مبناها ومعناها، مع النص الفرنسي المقابل «Le Roi Approuve»، لغويا ونحويا، تحمل طابع الإلزام والتقييد. وينبني على ذلك أن ظهير الموافقة في صيغة الفصل 57 لا يحمل إلا على تزكية ملكية تحصِّن، بالنظر إلى حمولتها الدستورية، قرار التعيين الصادر عن أعضاء المجلس ضد القابلية للطعن فيه أمام القضاء الإداري تمييزا له عن بقية الوضعيات الفردية للقضاة المنصوص عليها في الفصل 114، التي أصبحت تخضع لرقابة القضاء الإداري عن طريق الطعن. فهل جاء مستجد الفصل 57 بقيمة مضافة للضمانات بالغة الأهمية والتطور التي كرسها الباب السابع من الدستور؟ وهل كان من شأن الاحتفاظ بالتوجه الذي سار فيه الفصل 84 من دستور سنة 1996، الملغى، أن يؤثر سلبا على هذه الضمانات وعلى التطور الهام الذي جاء به الباب السابع المتعلق بالسلطة القضائية، أو يقلل من حمولة الصلاحيات الهامة والموسعة والهادفة التي خولها الدستور الجديد لأعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية؟ وإذا كان التوجه الذي سار فيه الفصل 57 بهذا الخصوص ربما أملته مبررات عملية صرفة، فهل تقوى هذه المبررات أمام نص وروح مرتكزات دستورية قارة ومرجعية يقوم عليها نظامنا الدستوري؟ إن قراءة تحليلية في المنحى الذي سار فيه الفصل 57 في هذه الدراسة تهدف إلى تحفيز فقهاء وأساتذة القانون الدستوري على تدارسه بالاحترافية التخصصية وبنزاهة فكرية. وفي انتظار ذلك، وجدنا من المفيد أن نحلل التوجه الذي سار فيه الفصل 57 من ثلاث زوايا على الأقل: قراءة في مستجد الفصل 57 في علاقته بمرتكزات دستورية قارة ومرجعية
من المفترض أن هناك تراتبية داخلية للمبادئ التي يقرها الدستور؛ فالمبادئ، التي ينص صراحة على أنها من الأسس التي يقوم عليها النظام الدستوري في البلد وكذا تلك التي لا تقبل المراجعة، تعلو، بحمولتها الدستورية، على ما دونها من المبادئ الواردة في نفس الدستور. وتشكل بالتالي مرتكزات مرجعية لها. ومن ضمن هذه المبادئ المرجعية القارة ما ورد النص عليه في الفصل الأول، ومجموعة مبادئ في الباب الثالث المتعلق بالملكية. ويفترض تبعا لذلك أن تخضع القواعد القابلة للتعديل والتطوير الديمقراطي والحكامة الرشيدة والجيدة لنص وروح وأبعاد المبادئ الأساسية المرجعية، وهي مبادئ قائمة على التوفيق المحكم بين الحداثة والتحديث الديمقراطي المتعارف عليه كونيا وبين الهوية الدستورية بخصوصيتها الوطنية؛ فهل جاء الفصل 57 متناغما مع المرتكزات الدستورية المرجعية التالية، المفترض أن يصاغ نص وروح الفصل 57 على مقتضاها وعلى مقتضى منطقها الداخلي، حتى مع الأخذ بالاعتبار المبادئ التي تقوم عليها الملكية البرلمانية؟ - المرتكز الدستوري المرجعي الأول: ونعني به الحمولة الدستورية للصفة المزدوجة للملك: صفة رئيس الدولة وصفة أمير المؤمنين، في ارتباط بطبيعة العلاقة المؤسساتية بين الملك والسلطة القضائية والقضاة، وما يترتب عن هذا المبدأ الدستوري المرجعي وعن هذه العلاقة من أثر بخصوص تحديد جهة القرار في إجراء تعيين القضاة. فمن المسلم به أن البنية الدستورية لنظام الحكم الملكي في المغرب ترتكز على الأسس المقررة في الفصل الأول من الدستور الذي يحدد الركائز التي يقوم عليها النظام الدستوري في بلدنا والثوابت الجامعة للأمة. وداخل هذا الخيار الدستوري المتجذر في عمق التاريخ، قبل وبعد المرحلة الدستورية في بلدنا، تتمحور الصفة المزدوجة للملك في مبنى ومعنى الفصلين 41 و42، وتضع بالتالي الملك في الموقع المؤسساتي والاعتباري الوازن في قمة الهرم المؤسساتي للسلطة القضائية، بما يتعين أن تترتب عنه من صلاحيات، وأساسا، في مجال التعيين والعزل؛ وهذا ما سارت فيه أحكام الباب الثالث من الدستور بصفة عامة، ويتعين أن يكون الأمر كذلك. بيد أن الصيغة التي ورد بها الفصل 57، كما هو واضح من ظاهر النص، حادت عن سياق التوجه الدستوري العام، ربما من حيث لا تحتسب، في اعتقادنا. فلما كان مؤكدا أن طبيعة العلاقة النظامية والمؤسساتية بين الملك والقضاة ترتكز على التلازم محكم الارتباط بين الصفة الأولى للملك (رئيس الدولة وممثلها الأسمى) والحكم الأسمى بين مؤسساتها، والساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية؛ والصفة الثانية (أمير المؤمنين) بمفهومها الديني المرجعي في الفصل 41، التي تكرس لملوك المغرب مسؤولية الإمامة العظمى التي يعتبر القضاء من ضمن آلياتها المحورية. وهو ما لم يفت الملك محمد السادس، في الخطاب الملكي بتاريخ 20 غشت 2009، أن يؤكد عليه بالقول السامي: «... لذا قررنا إعطاء دفعة جديدة وقوية لإصلاحه، وذلك وفق خارطة طريق واضحة في مرجعياتها...» إلى أن يقول: «وفي صدارة هذه المرجعيات ثوابت الأمة القائمة على كون القضاء يعتبر من وظائف إمارة المؤمنين، وأن الملك هو المؤتمن على ضمان استقلال السلطة القضائية»، فإن للصفتين معا، في تلازمهما أشد الارتباط، يفترض أن يكون أساسا دستوريا مرجعيا لتحديد سلطة القرار في مجال التعيين في القضاء، وبالتالي يفترض أن تنعقد سلطة القرار للملك على أساس مسطرة اقتراحية من قبل المجلس أو بعد استشارته. وهذا ما لا توحي به صيغة الفصل 57 التي يرافقها طابع الإلزام المقيد للسلطة التقديرية أو التقريرية للملك، رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالصفتين الدستوريتين معا، بقرار التعيين الصادر عن المجلس. - المرتكز الدستوري المرجعي الثاني: ونعني به المبدأ الدستوري القار الذي بموجبه تصدر الأحكام باسم الملك كما هو منصوص عليه صراحة في الفصل 124. والأثر الذي يترتب عن هذه النيابة الشخصية للقضاة عن الملك في إصدار الأحكام، دستوريا، وبصفة خاصة في مجال التعيين والعزل. وهكذا جاء الفصل 124 المذكور: «تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك...»، وتأخذ عبارة «باسم الملك» مدلولَ النيابة الشخصية في إصدار الأحكام، وتعني أن النائب أو النواب، وهم القضاة، يصدرون الأحكام في إطار نيابة شخصية مباشرة ودستورية عن السلطة الأصلية، وهي الملك، مكيفة بنص وروح وأبعاد الفصلين 42 و41 في علاقتها المتلازمة، وأن منطق هذه النيابة يفترض، دستوريا، أن تنعقد للمنيب، وهو الملك، سلطة تعيين النائب أو النواب، وهم القضاة، كمبدأ قانوني قار يحدد الدستور مسطرة مزاولته بشكل اقتراحي أو استشاري من قبل أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ومن جهة ثانية، فحينما كرس الدستور مصطلح «الوكيل العام للملك»، فإن هذا الخيار الدستوري لا يحمل، كقرينة دستورية، إلا على أساس قواعد الوكالة الرابطة، دستوريا، بين الملك، وهو الموكَّل، والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، وهو الوكيل من طرف هذه الوكالة الدستورية ومن خلاله وكلاء الملك ونوابهم. ومن المسلم به، طبقا لأحكام الوكالة أن الموكِّل هو الذي يعين ويعزل قانونا الوكيل، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار مبادئ نظام ملكية برلمانية. - المرتكز الدستوري المرجعي الثالث: ويتعلق برئاسة الملك للمجلس الأعلى للسلطة القضائية التي كرسها دستور المملكة، في الفصلين 56 و115، كما هو الحال في الأنظمة الدستورية والقضائية ذات المجد والعراقة والديمقراطية الأكثر تقدما ورجحانا. وفي الخصوصية المغربية، فإن رئاسة الملك لهذه المؤسسة الدستورية تزاول مكيفة بنص وروح الفصلين 41 و42 من الدستور في تلازمهما، من جهة، وبطبيعة العلاقة النظامية، دستوريا، بين الملك والقضاة كما سبق بيانه في المرجعتين الأولى والثانية، من جهة ثانية. وإن منطق هذه المعادلة الدستورية، الذي لا تعارض فيه مع ثقافة التحديث الديمقراطي التي تشكل قناعتنا الصميمية، يفترض أن تنعقد للرئيس صلاحيات تزاول، حسب مساطر يحددها الدستور، على أساس ضوابط قد يحيل في تحديدها على مجال القانون. وفي موضوع التعيين في القضاء تزاول، في الراجح من الأنظمة المقارنة، عبر مسطرة اقتراحية تختلف ميكانيزماتها بين نظام وآخر، من قبل المجلس أو بعد استشارته. يقابله اتجاه يسير في المنحى الذي سار فيه الفصل 57. رئيس غرفة بمحكمة النقض