عندما انهزمت البارْصا قبل أيام، رأيت مراهقين غاضبين يعتدون على رجل كان يسوق سيارته رفقة أبنائه؛ وعندما أُقصيت من الوصول إلى نهاية «التشامبيونز ليغ»، شاهدت سكاكين وهراوات يرفعها مغاربة ضد بعضهم البعض. وقبل ذلك، انهزمت البارصا فاستل شاب سكينه وغرزه في بطن نادل مقهى لا يهمه أن تنتصر البارصا أو تنهزم بقدر ما يهمه أن يعود إلى منزله بحفنة من الدراهم. وبعد ذلك، مات شاب آخر لأن البارصا انهزمت، ولو أننا عددْنا كل ضحايا البارصا في بلاد المغرب الأقصى، فسنجمع مقبرة صغيرة يمكن أن تتسع مستقبلا بسرعة قياسية. لم يعد من المعقول أن ينهزم فريق إسباني فيموت مواطن مغربي، هذه حماقة. لينْطح الناس «رؤوسهم مع الجدران» عندما تنهزم الفرق الإسبانية، لكن يجب ألا يتقاتلوا لأننا نثير سخرية الإسبان أنفسهم. شاهدت عدة مباريات في عدد من ملاعب إسبانيا، ولا أنبهر إطلاقا بأداء اللاعبين بقدر ما أنبهر بالجمهور الذي يبدو وكأنه في يوم عيد، لذلك عادة ما أعود بمخيلتي إلى الملاعب المغربية وأنا أجلس في «نوكامب» أو «بيرنابيو» أو أي ملعب آخر. داخل الملعب يبدو ميسي أو رونالدو أو رونالدينو لاعبين بمواصفات عادية، لكن التلفزيون يصنع منهم أبطالا خارقين، لذلك أعتقد دائما أن الملعب يصلح أكثر للتفرج على الجمهور، بينما التلفزيون يصلح للتفرج على اللاعبين. عندما أزور برشلونة لا أجد مفرا من دخول ملعب «نوكامب». الناس معتزون بقوميتهم الكاتلانية وبفريقهم الذي يرون أنه يمثلهم سياسيا قبل أن يمثلهم رياضيا، فالبارصا ليس مجرد فريق للكرة، بل هو منتخب قومي، ومن الطبيعي أن يكون جمهور هذا الفريق ناضجا وعاقلا ويحمل أفكارا سياسية، بينما الأنصار البعيدون يتقاتلون بالسيوف والخناجر. خلال مباريات البارْصا، يتصرف الكاتلانيون وكأنهم في طريقهم إلى حفل. يرتدون أفضل ما عندهم ويرافقون أطفالهم وزجاتهم ويحولون الملعب إلى زفاف جماعي، وفي الغالب تنتهي المباراة بالانتصار، وعندما يحدث العكس يخرج الناس كما دخلوا، بنظام وانتظام كرجل واحد، لا شتائم ولا تخريب ولا تزاحم ولا تدافع بالمناكب ولا «بزاطيم» تطلع من الجيوب. في الدارالبيضاء أو طنجة أو مراكش أو غيرها، يمكن لنقاش بين أحد أنصار البارصا وواحد من خصومها أن يتحول إلى جريمة قتل، بينما يمكن للكاتلانيين من أنصار فريق إسبانيول برشلونة أن يعبروا عن حبهم لفريقهم وسط بحر من عشاق البارصا، من دون مشاكل. ومرة، دخلت ملعب «المونجويك» في برشلونة حيث كان يلعب فرق الإسبانيول، فكانت متعة حقيقية لفريق برشلونة الثاني الذي يفخر أيضا بعشاقه المخلصين، والذين يتوزعون بعد المباراة في مختلف أنحاء المدينة وهم يرتدون القميص الأبيض والأزرق ويحملون الرايات من دون أن يتعرض لهم أحد بأذى.. قد تحدث ملاسنات، لكنها عابرة. في ملعب «سانتياغو بيرنابيو»، رأيت الشيء نفسه لعشاق ريال مدريد، وهم الأغلبية الساحقة في العاصمة، لكن الفريق الثاني -أتلتيكو مدريد- له أنصار كثيرون؛ وحين يلتقيان في مباراة الديربي، تشتعل مدريد حماسا؛ وبعد المباراة، تنتهي النقاشات في المقاهي والبارات والمنازل، لكن لا أحد يريق دم خصمه لأن فريقه انهزم. الكرة في البارْصا صناعة حقيقية تدر مئات الملايير من الأورو سنويا، واللاعبون يقبضون أجورا فلكية، وجمهور الفريق في إسبانيا يستمتع ببعض هذا «البريستيج» من خلال الملعب وظروف الراحة القياسية والاشتراكات المريحة وتوفر «النجوم» مباشرة أمام عينيه. حال ريال مدريد لا يختلف، لكن العشاق البعيدين ليسوا مثل العشاق القريبين، فالفارق مضحك بين من يؤدي ثمن تذكرة بمائة أورو ويجلس مستمتعا بالنجوم يتراقصون أمام ناظريه، وبين من يتعب لتوفير ثمن كأس قهوة ويتزاحم أمام تلفزيون مقهى ليشم سجائر وعرق غيره. هذا هو الفارق، وهو فارق كاريكاتوري. المشكلة أنه في المغرب أيضا كانت ملاعبنا في عهد الاستعمار نموذجية رغم صغرها.. كان الناس يتوجهون إليها بجلابيبهم وطرابيشهم الأنيقة، وأحيانا ب«السموكينغ» أو ربطة عنق، وكانت أسر بكاملها تدخل الملاعب في زمن كان الناس ينادون فيه بطرد الاستعمار، لأنهم لم يكونوا يدركون أنه سيأتي «زمن الاستقلال» وتتحول فيه الملاعب المغربية إلى جحيم بحيث صار دخولها مغامرة حقيقية، أما إذا دخلتها رفقة أبنائك فتلك مصيبة.