من المكرور القول إن محمود درويش قامة شعرية باسقة من قامات الشعر عربيا وعالميا، إلى جانب المتنبي، أبي نواس، عمر الخيام، ناظم حكمت، رامبو، السياب، ريتسوس، وغيرهم. ذلك أن الشواهد على قدره الفني- الجمالي كثيرة، منها تداول شعره قراءة ونقدا، ترجماته إلى شتى ألسنة العالم، جماهيريته (القاسية أحيانا) حضوره الإعلامي، سفرياته في ضيافة ملوك، رؤساء ووزراء... وبقدر التكريم قيد حياته، حظي بالتأبين إثر وفاته، اعتبارا لموت شاعر كبير، شكل علامة مضيئة في مسار القصيدة في سعيها نحو مجهولها الجمالي والإنساني. ولأن الموقف موقف موت، ونحن في عز التأبين، تطفو إلى سطح التأمل أسئلة عديدة، لعل من بين أهمها: كيف نؤبن إنسانا، خصوصا إذا كان شاعرا فنانا من حجم درويش؟ بالصمت أم بالضجيج؟ بالاحتفال أم بالاعتبار؟ بالجوائز أم بالكلمات والزهور؟. نطرح هذه الأسئلة وفي تقديرنا أن هناك من يتلوا آية كريمة على روحه أو يقرأ قصيدة، من يكتب شهادة عنه أو يكتب خاطرة، من يتذكره في موقف أو يستحضره في التماعة ضوء من عينيه، من يرتجل كلمة تأبين في فصل دراسي، أو ينظم مهرجانا خطابيا يحشد له الإعلام والمعزين... كل بطريقته، وبحسب استطاعته، فردا كان أو مؤسسة. غير أن أسوأ شكل من التأبين، في نظري، هو ذلك الذي يتخذ صيغة الشهادة الذاتية، على غرار: حين كان يحل بالبلاد، ينزل في بيتي، يأكل من طبيخ زوجتي، ينام بين أطفالي ...الخ. إن التأبين، هنا، غالبا ما ينحرف ليصير ادعاء من قبل صاحب الشهادة، حتى لو كانت هذه الأخيرة صحيحة بما تنطق به (بعض شهادات العدد الخاص من القدس العربي حول درويش). إن المؤبن، في هذا الإطار، يضطلع بدور: حامل المرآة، حافظ الأسرار، والقيم على الذاكرة الخاصة. يعني التأبين، في جوهره، الاعتراف، التكريم، الوفاء.. بداية تأريخ لحظة ما بعد الوداع بما يحيل إليه من عهد على مقاومة النسيان: نسيان الفقيد. إذا كان هذا هو التأبين، من خلال تنظيم المهرجانات الخطابية ومنح الجوائز، فكيف يكون القبول بقتل الآخر القريب منا مشروعا: بمعنى إهماله وإقصائه، نسيانه وتصفية الحساب معه شخصا وإبداعا خصوصا ممن يقتضون بعض التفهم والصبر منا، بصفتنا مثقفين ومؤسسات ثقافية. أقول هذا الكلام وفي ذهني شعراء – كتاب مغاربة جميلون ضربنا عليهم طوقا محكما، حتى لا نكاد نراهم في معرض كتاب أو مهرجان، أو ملتقى... في الوقت الذي لا يكف فيه آخرون، من دول شقيقة وغير شقيقة، عن القدوم إلى بلادنا أربع مرات أو خمسا في السنة: كأننا دولة من دول الخليج!! إن الموت، بصفته معنى ووجودا، ينبغي أن يدفع بالإنساني- الجمالي فينا إلى ذروته وانسجامه: لامعنى لأن نتذكر هذا وننسى ذاك، نشعل شمعة، هنا، ونهمل أخرى، هناك، مطفأة... ما أكثرنا ادعاء، حتى ونحن في موقف الموت، أيها... القساة!!