أعود للتلفزيون المغربي مرة أخرى لأنه يظل الحدث بدون منازع، وتظل دفاتر التحملات التي هيأها الوزير مصطفى الخلفي وصادقت عليها الهيئة العليا للسمعي البصري هي الأكثر إثارة للجدل ضمن باقي الملفات الحكومية الساخنة. وللتدقيق، كان للخرجة المفاجئة للمدير العام للقناة الثانية سليم الشيخ، عبر موجة حوارات متتابعة هاجم فيها مقاربة الوزير الوصي وأعلن معارضته فيها للهوية الجديدة للقناة الثانية كما ترسمها دفاتر تحملات الخلفي، طعم خاص مختلف عن طعم جميع ردود الفعل القوية الأخرى، وضمنها آراء وزير الاتصال الأسبق وزعيم حزب ضمن التحالف الحكومي نبيل بنعبد الله ووزير المالية السابق زعيم حزب الأحرار المعارض صلاح الدين مزوار ووزير الصناعة والتكنولوجيات الحديثة السابق الاتحادي أحمد الشامي. لنترك سليم الشيخ قليلا، ونبدأ بصلاح الدين مزوار الذي قال إن مهمة الوزير هي البحث عن الموارد وساق ضمن هذه الموارد شركات الإنتاج التلفزيوني، ومزوار المسكين لو صمت كان سيستر لأن شركات الإنتاج تأخذ الموارد ولا تعطي للتلفزيون الموارد! الوزير الشامي تحدث عن عدم المس بالتعدد اللغوي وكأن مشكل الإعلام في المغرب هو هشاشة الفرنسية؛ وكان أولى بالشامي، الذي خلف مروره الوزاري في الحكومة السابقة أثرا إيجابيا، أن يبحث عن ثغرات أخرى في دفاتر التحملات غير مشكل اللغة التي لا تعني بأي وجه من الأوجه الانفتاح، فبلد الملايين من الأميين والمهمشين لا يمكن أن ينفتح بإعلام رديء بجميع اللغات! نبيل بنعبد الله كانت له آراء منطقية، فالتلفزيون والإذاعة ليسا شأنا قطاعيا محضا، بل إنه في بلد كالمغرب ليس فيه من إعلام مرئي إلا إعلام الدولة لا بد للحكومة برمتها أن تحدد توجهه العام، وبالتالي فإن دفاتر التحملات كان يجب أن تكون قوية بدعم الأغلبية، وعندما نشبع المغاربة بصيغ محبوكة جديدة من مثل المقاربة التشاركية، وبعدها نجد أن ردود الفعل كانت ليس تنافرية فقط بل انفجارية، فآنئذ يمكن أن نتحدث عن مشكل تدبيري عميق لا يشفع فيه حسن النية، والمثال البسيط على مشكل المقاربة هو أن قضية حذف الإشهار لألعاب الرهان من التلفزيون كان بالإمكان أن تمر دون ضجيج لو تم إخطار وزير الشبيبة والرياضة الذي سمع بالقرار عبر وسائل الإعلام رغم أن له علاقة بمائة مليار سنتيم من موارد الوزارة من خلال المغربية للألعاب. الهدف نبيل والمقاربة تسرعية انفرادية. نصل الآن إلى سليم الشيخ ونربطه ببنعبد الله. فعندما اختلف نبيل كوزير للاتصال آنذاك مع المدير العام للقناة الثانية نور الدين الصايل حول ما إن كانت ستظل عمومية أم ستخوصص، كان مصير المدير العام هو الطرد المؤدب، وكانت القاعدة المطبقة سليمة رغم أنها لم تكن عادلة، وهي أن من لم يكن مع سياسة الوزارة فهو خارج عنها ومنها. اليوم يخرج سليم الشيخ بشكل مرتب ويعطي في أقل من يوم خمسة حوارات تدور كلها حول عدم الاتفاق التام مع مقاربة الخلفي، ليس في نقطة أو اثنتين، ولكن في التصور الوزاري برمته لهوية القناة الثانية. وليرد الشيخ عن سؤال سبب الخروج الآن، يقول إنه كُلِّف من طرف مهنيي القناة بتبليغ صوتهم! ولمن؟ ليس للمسؤولين ولكن للرأي العام! كنت أتمنى أن أصدق ما كنت أسمع، مدير عام قناة عمومية يصبح معارضا ويحمل شارة الاحتجاج باسم المهنيين؟! غريب. والأكثر غرابة أن يقول الشيخ إن قناته هي الأحسن على مستوى العالم العربي ضمن القنوات العمومية، متناسيا أن البلدان التي أعطاها كمثال، وهي مصر ولبنان، فيها قنوات تلفزيونية محلية خاصة جد منافسة؛ وما دامت دوزيم لها الاحتكار التلفزيوني الأرضي مع الأولى، فإنها بالضرورة ستكون الأحسن بدون منافس. ويتحدث الشيخ أيضا عن 23 سنة من القناة الثانية وما قدمته للمغرب دون أن يقارن بين دوزيم زمان التي حركت سواكن الإعلام في المغرب حين التهييء للتناوب وبين دوزيم التسطيح والتجهيل واللاهوية والنموذج الاقتصادي التجاري المبتذل التي تتبجح ظلما بكونها رافعة للانفتاح! يتحدث سليم الشيخ أيضا -ويا ليته سكت- عن لغة الإعلام، ويعتبر أن التنصيص على العربية في دفتر التحملات غامض لأنه لا يعرف ما إذا كانت العربية العربية أو العربية المغربية! كما يتحول إلى فقيه دستوري عندما يقول إن الدستور يتحدث عن العربية كلغة رسمية للبلاد ولكن هذا سينظم بقانون تنظيمي! فمدير عام قناة عمومية لها 27 في المائة من نسبة المتابعة لا يعرف أن العربية منذ أول دستور لسنة 1962 وهي رسمية ولا تحتاج إلى قانون تنظيمي. وإذا كان الشيخ يتحدث عن المهنيين الذين تكلم باسمهم، فهناك نقابة داخل القناة أصدرت بلاغا تساند فيه دفاتر التحملات، ويمكن ألا ننهي هذه الزاوية بالكشف عن الثقوب والعجائب في خرجة سليم الشيخ التي لا يمكن أن تكون من عندياته ولا من عنترياته وإنما هي وحي يوحى، والله أعلم. جل المغاربة ظلوا يقرؤون اللطيف على حال التلفزيون العمومي الذي ظل وفيّا لصورة علبة الإلهاء ومنبع الخواء وصندوق الإشهار الأبله دون أن يتحرك المدير العام السابق أو الحالي ولا أن يفارق تثاؤبه، فما الذي جرى حتى حظينا بهذه الطلعة البهية لمدير عام أصبح مناضلا ثوريا من أجل حق الشعب في الانفتاح! إن دفاتر تحملات الخلفي تتضمن الكثير من الثغرات والعيوب من مثل نقل صلوات الجمعة على جميع القنوات التلفزية والإذاعية، والمفروض أن المشاهدين يجب أن يتحولوا حينها إلى مصلين، أو من مثل بث كامل الآذان في عصر التكنولوجيا الحديثة. والآذان لم يكن إلا المنبه الإلكتروني في الجزيرة العربية قبل وجود الساعة السويسرية والمحمول الكوري، أو من مثل البث بالعربية في راديو القناة الدولية أو خلخلة طبيعة راديو دوزيم المتكامل مع مشهد إذاعي مختلف التوجهات، وغير هذا كثير. أما أن يتحرك اللوبي الفرنكفوني، الذي حاز على ملكية قناة عمومية كاملة لتخدم ميولات حفنة من المهاجرين أصلا إلى القنوات الفرنسية المشفرة، والبكاء على القدرة الاستيعابية للمغاربة دفاعا عن دارجة رديئة تستهدف أصلا كل إمكانية تطوير ذهني للبسطاء من الشعب لأن هذه «النخبة» لا تتكلم أصلا الدارجة وتحتقرها وتعتبرها لغة الخادمة وحارس السيارة ولا تتواصل في المنزل ومع الأولاد إلا بالفرنسية، فإن هذا هو ما يصطلح عليه بالحق الذي يراد به باطل. وإذا كانت القناة الثانية تحقق 95 في المائة من المداخيل من الإشهار و5 في المائة فقط من التمويل تحصل عليه من الدولة، فلماذا لا نخوصصها وآنئذ يمكن لأصحابها أن يرسموا خطها التحريري ولا يبقى هناك تلفزيون عمومي محسوب علينا وهو لا يشبهنا؟ بالله عليكم، هل سيؤثر تغيير توقيت نشرة أخبار بالفرنسية من التاسعة إلى العاشرة ليلا في منسوب انفتاح المغرب على العالم!؟ هل يعقل أن يدافع الحداثيون عن الشكل والقشور وينسوا الجوهر؟ إن المضمون الحداثي هو الذي يجب أن نناقشه، وهذا المضمون لا تلعب فيه اللغة أي دور، بل الجرأة في محاربة الاستبلاد وتقسيم المجتمع إلى خيمتين، واحدة مسيجة لنخبة تعيش خارج المغرب وهي داخل حدوده! وأخرى مفتوحة ازدحاما للجميع الذي عليه أن يتناول بقايا الغرب وتفاهاته بدعوى الانفتاح. إذا كانت الحداثة والانفتاح هما نموذج التلفزيون الذي كنا نشاهده، فالكفر بهذه القيم أحسن، وهذا لا يعني أننا مع تلفزيون ديني متزمت ومتحجب بدعوى الهوية، فهذا سيكون أسوأ من سابقيه لأنه سيشكل رصاصة رحمة على ما تبقى من أسمال هذا الإعلام الموصوف تجنيا بالعمومي. إن دفاتر تحملات مصطفى الخلفي ليست عصا سحرية ولن تحل المشكل، وواهم من يعتقد أن المعركة ستحسم في فاتح ماي، تاريخ دخول هذه الدفاتر حيز التنفيذ. إن التلفزيون في المغرب له رب يحميه فوق الحكومة وفوق العموم، وعندما تكون هناك الإرادة السياسية لتلفزيون مهني فآنئذ يمكن أن نتناظر لنخرج بصورة التلفزة المغربية الصادقة التي تريد أن تخدم جمهور المتلقين، لا أن تشكل لعبة مناوشات سياسوية أو مناوراتٍ آخرُ همِّها هو المغاربة الذين تتخذهم كذريعة.