من المؤكد أن وزارة الاتصال ارتكبت خطأ جسيما لا يغتفر وهو أنها أصدرت دفتر التحملات الجديد الذي يهم القناة الثانية (عفوا، «دوزيم») باللغة الفرنسية، متناسية أو متجاهلة أن عددا لا بأس به من «النخبة» المغربية (وضمنهم مدير هذه القناة نفسه) لا يميزون الليف عن عصا الطبال في اللغة العربية. لذلك كان من الطبيعي تماما أن ينتفض أفراد من تلك النخبة بعد إحساسهم بأن كرامتهم الداخلية قد مسّت (وهي غير الكرامة الخارجية، طبعا) للدفاع عن شيء واحد، هو «التعددية اللغوية» التي صارت مهددة بحسبهم حين نصت دفاتر التحملات الجديدة على فتح حيّز أكبر للغتين العربية والأمازيغية في القنوات التلفزيونية العمومية، وإيلاء أهمية للغات أجنبية أخرى غير الفرنسية في القنوات العامة كما في القنوات المتخصصة (وخاصة منها قناة «المغربية» التي يفترض أن تبث برامجها بالإنجليزية والإسبانية، إضافة إلى العربية والفرنسية). وقد كان مدير القناة الثانية (عفوا، «دوزيم») صريحا صراحة مطلقة في الاعتراف بما لاقاه ويلاقيه من صعوبات مع اللغة العربية حين قال في حوار أجرته معه صحيفة ورقية إنه قضّى سبع ساعات كاملة (من السابعة ليلا إلى الثانية صباحا) في فكّ حروف «الدمياطي» الذي كتب به دفتر تحملات قناته، وذلك دون أن يستطيع تجاوز نسبة عشرين في المائة من الدفتر. وبما أن صفحات هذا الأخير لا تتعدى خمسا وأربعين صفحة، فإن معنى كلامه هو أن تسع صفحات مكتوبة باللغة العربية (متوسط عدد سطور كل منها أربعة وعشرين سطرا) تطلبت منه سبع ساعات. وهذا يكفي في حد ذاته لتوضيح المحنة التي صار يعيشها المسكين بسبب اللغة العربية ووزارة الاتصال؛ والتي ازدادت حدة، بالتأكيد، حين علم بأن دفتر التحملات الجديد ينصّ على تبديل موقعي نشرتي الأخبار المسائيتين بالعربية والفرنسية (حيث تحل العربية مكان الفرنسية في التاسعة والفرنسية مكان العربية بعد الحادية عشرة ليلا)، الشيء الذي «يعني إلغاء أو، على الأقل، تهميش اللغة الفرنسية»، كما اضطر إلى القول في حواره المذكور، وهو ضد هذا «التهميش» طبعا، ولا يمكن أن يسمح باتخاذه تجاه هذه اللغة التي لا يتقن سواها، والتي تلعب النشرة المنطوقة بها دور صلة وصل «مع أصدقائنا (أي أصدقائه) في الخارج»، على حد قوله. كما كان المدير على حق تماما، فوق ذلك، في رفضه للوصاية التي سعت وزارة الاتصال (ومعها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، دون شك) إلى فرضها عليه عبر دفتر تحملات صِيغ بطريقة تتدخل في صلاحياته كمهني، إلى حد أنه صار «شبكة برامج» (الدفتر وليس المدير) تحدد له نوعية البرامج التي يتعين عليه أن يبثها وتوقيتها وكيفية إعدادها، وهذا أمر فيه استصغار كبير له كمهني أثبت جدارته في مستويين على الأقل: - أولهما تحويل القناة الثانية (عفوا، «دوزيم») إلى قناة دولية رائدة تبث عددا لا يحصى من المسلسلات المكسيكية المدبلجة إلى لغة الشارع المغربية، وبرامج مثل «استوديو دوزيم» تبعث الأمل لدى شبابنا في أن المستقبل مفتوح أمامهم للتحول إلى مغنين ومغنيات، بما يغنيهم عن الدراسة والكد والعمل، أو مثل «الخيط الابيض» و«مدام مسافرة» و«أخطر المجرمين» التي تتناول قضايا المجتمع أيما تناول وترفّه عن الناس أيما ترفيه؛ - وثانيهما إيقافه للقناة على حافة الإفلاس الذي يتوقع أن يتم الإعلان عنه عما قريب ما لم تتدخل الدولة، مرة أخرى، كالعادة وكما فعلت في مرات سابقة (آخرها توقيع الحكومة السابقة لعقد برنامج، يمتد على ثلاث سنوات، في يونيو 2010) من أجل إنقاذها. كل هذه أمور لا يمكنها سوى أن تقودنا إلى التعاطف مع مدير يوجد في وضع «هروب إلى الأمام».. لا يحسد عليه، جعله ينسى حق التحفظ المفروض عليه ويبادر إلى إطلاق حوارات إذاعية وإلكترونية وورقية ذات اليمين وذات الشمال، في وقت قياسي (الله يكون فالعون)؛ مثلما جعله ينسى (بأثر رجعي، وقبل أن يظهر دفتر التحملات بسنة كاملة) الدعوة إلى عقد اجتماع المجلس الإداري لشركته - قناته، الذي كان مفروضا أن ينعقد يوم 31 مارس 2011. وقانا الله وإياكم من «الهروب إلى الأمام»، ومن التلبّس والنسيان..