لقد كتب الكثير عن تأثير الجغرافيا على مصائر الأمم. وقد عبر الكاتب جمال الغيطاني عن ذلك عندما كتب كتابه الشهير عن عبقرية المكان. وفي نهاية القرن التاسع عشر، وضع ر. ج كشلن علم أو شبه علم ما يعرف بجيو السياسة، مبينا أهمية المكان، أي الجغرافيا، في تحديد الهوية السياسية والفعل السياسي لساكني ذلك المكان. وينسب إلى أحد رؤساء الوزارة الكنديين، وليم كنج، قول له دلالة ملفتة ومفاده أنه «إذا كان لدى بعض البلدان كثير من التاريخ فإن لدينا كثيرا من الجغرافيا». مناسبة ذكر كل ذلك هي المأساة التي تواجهها سورية في محنتها الحالية، ذلك أن كلَّ العوامل الثلاثة سالفة الذكر، الجغرافيا والسياسة والتاريخ، تشابكت لتجعل من حراكِ شعبها المشروعِ، المتناغمِ مع الربيع العربي، الهادفِ إلى تحقيق الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة وإقامة نظام ديمقراطي سياسي اقتصادي عادل، (لتجعل منه) قضية معقدة تتجاذبها الصراعات الإقليمية والتوازنات الدولية والانقسامات الداخلية المفجعة. دعنا نأخذ مثالين لتوضيح ذلك. على المستوى الدولي، هناك الموقف الروسي من الأوضاع في سورية. إنه محكوم بموضوعين: الأول يرتبط بالجغرافيا، ويتمثل في القاعدة البحرية للأسطول الروسي في طرطوس. إن إمكانية تغيُّر نظام الحكم في سورية، وبالتالي فقدان وجود الأسطول في قاعدة تطل على البحر الأبيض المتوسط، ستحرم روسيا من موطئ قدم في بقعة جغرافية هامة وستضر بالاستراتيجية الأمنية الروسية التي تسعى إلى ألا تحصر روسيا في بقعة جغرافية مغلقة خانقة؛ الموضوع الثاني يتعلق بعدم ترك الشرق الأوسط ليصبح كله ساحة نفوذ أمريكية بحتة. إن سقوط النظام الحالي سيعني نهاية لفكر سياسي ولممارسة سياسية سورية سمحا بوجود نفوذ سياسي روسي في قلب الشرق الأوسط. وبالطبع، سينتج عن ذلك السقوط إضعاف للنفوذ الروسي في المجال الدولي وقدرة روسيا على المساومات المصلحية الدولية. لكن ممارسة النفعية والمصالح الذاتية البحتة تتجلى أيضا، في اعتقادي، في موقف دول مجلس التعاون مما يحدث في سورية، فالموقف الخليجي يتسم بالحيرة والشكوك عندما تدعم دول إما غير ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، باستماتة وحماس منقطع النظير، حراكا شعبيا ثوريا يسعى إلى إقامة نظام حكم ديمقراطي سيكون مختلفا كليا عن أنظمتها. وعليه فإننا لسنا أمام موقف يرتبط بانحياز مبدئي إلى الديمقراطية وإلى حقوق الشعوب وإنما بموقف يرتبط بالمصالح والتوازنات. إن صراعات النفوذ في الخليج العربي ستجعل من سقوط نظام الحليف الاستراتيجي السوري لجمهورية إيران الإسلامية رجحانا لكفة مجلس التعاون في حروب السياسة والأمن والسلاح الملتهبة في كل دول الخليج. يضاف إلى ذلك أن ذلك السقوط سيقود إلى تغيُّر الموازين في ساحة الصراع المذهبي السني الشيعي المفجع الذي تستعمله بانتهازية نفعية خطرة مضرة بالإسلام كل دول منطقة الشرق الأوسط، سواء في صراعات المصالح والتوازنات الإقليمية أو الداخلية، من جهة، أو في خدمة مصالح الدول الإمبريالية الكبرى، من جهة أخرى. إن سورية التي ارتبط تاريخها، منذ قيام الملك العضوض الأموي في أرضها، بموضوع الهيمنة المذهبية السنيّة في ساحة الدين والسياسة، وارتبط الفكر والفعل السياسي فيها بالدخول في كل مواجهة مع الكيان الصهيوني، وبالتالي إسناد كل مقاومة شعبية لهيمنة ووجود ذلك الكيان، وارتبطت جغرافيتها بتماس مع حدود دول بالغة التعقيد والأهمية الدولية كلبنان والأردن والعراق وتركيا وكالكيان الصهيوني في فلسطينالمحتلة.. إن سورية هذه لا تستطيع أن تخرج من تحت عباءة تلك المحدِّدات الثلاثة إلا باستعادة شعبها لإرادته الحرّة وبنائه لديمقراطية عادلة. هذا أمر لا يختلف حوله المنصفون. لكن الإشكالية والتحدي الأكبر هما في كيفية استعادة تلك الإرادة وبناء تلك الديمقراطية دون انزلاق هذا القطر العربي الهام في لعبة الصراعات والتوازنات السياسية والأمنية والمذهبية على المستوى الإقليمي العربي الإسلامي، دون إضعاف للمقاومة العربية للوجود الصهيوني، دون استعماله كوقود في صراعات الساحة الدولية، دون انتقاله ليصبح عالة على ثورات الربيع العربي بدلا من انخراطه فيها، دون أن تسرق حراكَ شعبه المشروع المطلوب المبهر جماعاتُ الكذب والنفاق على المستويات السياسية والإعلامية وجماعات الشر والجنون على المستويات الأمنية والعسكرية وجماعات الأحقاد الطائفية على مستوى الاجتماع والثقافة والدّين. دعنا نكون صادقين مع أنفسنا: هناك جهات في نظام الحكم السوري وفي المعارضة السورية وفي شوارع المدن السورية وفي قاعات الاجتماعات العربية والإسلامية والدولية، (هناك جهات) لا ترغب في أن تجنب الشعب السوري أيّا من تلك المنزلقات. الأمل الكبير الواثق هو في قدرة الشعب العربي السوري، بالتنسيق مع إخوته ومحبيه، على الاحتفاظ بتوازن فكره السياسي التقدمي القومي العربي المبهر وعروبته التاريخية وثقافته المتسامحة وإرثه النضالي الهائل ليخرج نفسه ووطنه الصغير والكبير من هذه المحنة المأساوية، محنتنا جميعا.