في عام 1995م، توفي اثنان من أعظم الكتاب العرب: علي الوردي عن سن تناهز 82 عاما مخلفا وراءه أكثر من ثلاثين مؤلفا، والصادق النيهوم وهو في ال58 من العمر؛ فأما الوردي فسار في جنازته أفراد قلائل على خوفٍ من فرعون وملئه أن يفتنهم، وأما النيهوم فمات مثل أبي ذر الغفاري: «يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده». يصف سعدٌ البزازُ الورديَّ بكونه أكبر عالم اجتماع في وطنه وكان حريا أن يودع بجنازة تليق به من خصومه وأصدقائه، ولكن لم يكن الخصوم ليسيروا في جنازته في بلاد: «غابت عنها تقاليد الحوار وبات من النادر احترام الرأي الآخر وتحولت الخلافات الفكرية إلى سكاكين تقسم الناس، فحيثما ينعدم احترام الرأي الآخر يصبح التشبث بالخصام والنزوع إلى الإيذاء بعضا من مظاهر الانفصام العام في شخصية المجتمع»؛ أما الأصدقاء فلا شك أن الخوف «شل أقدامهم عن الخروج إلى الشارع في تظاهرة الوداع، وحيث يوجد رعب جماعي تزداد الهواجس ولا يعود بإمكان الناس الإفصاح عن هويتهم الفكرية في لحظة مشوهة من التشظي في تركيبة المجتمع». مات الوردي تاركا وراءه مؤلفات تأسيسية للفكر مثل «منطق ابن خلدون» و«وعاظ السلاطين» و«مهزلة العقل البشري» و«موسوعة تاريخ العراق الحديث»؛ ومات النيهوم تاركا وراءه مؤلفات مثيرة مثل «محنة ثقافة مزورة» و«من سرق الجامع» و«إسلام ضد الإسلام» و«رحلة إلى مكة» و«قرود.. قرود». يطرح البزاز سؤالا «للوصول إلى عروق الكوارث»: «من نحن؟ وهل نحن شعب واحد حقا؟ ولماذا توالت الكوارث علينا؟ أهو عقاب إلهي قررته الأقدار؟ أم إن الكوارث هي نتاج جلدٍ جماعي للذات» ليصل إلى تحليل يدعو إلى التأمل ولا يخلو من قدر من الحقيقة، فينقل عن الوردي أنه «حذَّر من قدوم العوام من ريف متخلف إلى المدن» الذي سيؤدي إلى اجتياح المجتمع المدني على يد العسكر واغتصاب مؤسسة الدولة وترييف المدينة بقيم الثأر والعنف. وهناك من يرى أن بعض أنظمة الحكم لا تزيد على تحالف الريف ضد المدينة واستبدال إقطاعيي الأراضي بزعماء القبائل الأمنية الجديدة، بفارق أن مضارب القبيلة امتدت إلى كل الدولة-المجتمع فلا ضمانة لأي شيء أو إنسان في أي زمان أو مكان. ينتهي البزاز إلى أن «إعادة دور المدينة» سيؤدي إلى سلسلة من التحسينات مثل «إذابة الفروق العرقية والمذهبية رد الاعتبار إلى مفهوم الدولة فرض النمط السلمي لحل المشاكل إعادة إنعاش مجالس الفكر». مات الوردي فلم يسر في جنازته إلا رهط من الناس، وأما النيهوم فضاع رمسه، وهذه المكافأة من الأمة لمفكريها مؤشر خطير على غيبوبتها التاريخية. مصير الوردي يذكر بنهاية ابن رشد الذي كوفئ في نهاية حياته بالنفي إلى قرية يهودية وحرق مؤلفاته، وأما الطبري، المفسر والمؤرخ، فقد دفن سرا تحت جنح الظلام خوفا من الرعاع الذين اتهموه بالرفض، وأما مالك بن نبي فهو مجهول في بلده الجزائر أكثر من أي بلد آخر. ويبدو أن الفكر يبحث له دوما عن تربة مناسبة. هكذا هاجر نبي الرحمة إلى المدينة التي أخذت اسم النور، وهكذا انتقلت أفكار بوذا إلى الصين، وحمل حواريو المسيح عليه السلام دعوتهم إلى روما، وهرب الهوجنوت من فرنسا إلى برلين، كما لجأ النساطرة إلى بغداد، وفر علماء القسطنطينية بعد الفتح العثماني باتجاه الغرب. إن هجرة الفكر تحدث حينما يلج الوطن استعصاء تاريخيا فتمتلئ المعتقلات بالأحرار ودار الغربة باللاجئين السياسيين. الوطن العربي اليوم مقيد في زنزانة تاريخية من أربع زوايا متبادلة التأثير بين «مواطن تائه» و«فقيه غائب عن العصر» و«مثقف مدجن» و«زعيم مؤله». لقد آن الوقت لاستيعاب ثلاث حقائق: التخلي عن التعظيم الذي يقترب من التأليه، والحب الجنوني، وأن شخصا ما يستطيع أن يلمّ بكل شيء. والديمقراطيات اليوم تعكف على تشريح «بشرية» الزعماء أكثر من تقديسهم، فهذا العمل يفيد والثاني يعطل. إن دخول المجتمعات هذا النفق الأسود ليس غريبا عن التاريخ، وحالة استعصاء من هذا النوع تنتهي في العادة بثلاث كوارث: اجتياح خارجي، تحلل داخلي يفضي إلى حرب أهلية أو ثورة، أو تحنط إلى أجل غير مسمى في براد مشرحة الموتى. والجثة عندما تدخل الموت تمر عبر ثلاث بوابات: أولا المحافظة على الشكل مع توقف الوظيفة في ما يسميه الطب الشرعي ب«الصمل الجيفي»، فتصبح الجثة قطعة واحدة من خشب؛ ثم تدخل مرحلة التفسخ والتحلل فتتصاعد رائحة الموت؛ ثم تدخل مرحلة الاجتياح الخارجي لتبدأ طوابير لا تنتهي من فرق الحشرات تتناوب على التهامها في (نظام ثابت) يبدؤها الذباب الأزرق وينهيها النمل وخنافس الشحم في ما لا يقل عن 500 نوع من الحشرات، بحيث يهيئ التهام كل فريق الجثة للموجة التي بعده في ساعة بيولوجية لا تخطئ، حتى تذوب بالكامل في التراب وتعود إلى دورة الطبيعة. أظن أن النموذج العراقي يشرح النموذج الأول، أما الليبي والسوري فيمثل النموذج الثاني، فهل الوضع السوداني الراكد يمثل النموذج الثالث أم علينا الانتظار؟