مظاهرات جمعة الصبر والثبات يوم 26 غشت 2011م والناس تستعد لليلة القدر، كان الناس يلعنون الأب والابن علنا جهارا، فلم تبق ثمة هيبة للنظام والرئيس الدجال المزور. في الوقت الذي كان فيه الدجال المزور يحاضر في علماء الزور المزورين من المؤسسة الدينية، بعمائم وقلانس ولفات وطرابيش عصملية من مؤسسة العصر البرجي من حكم المماليك البعثية، بخرابيط من الكلام زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، أنظر كيف كذبوا على أنفسهم. لقد أرسل إلي صحفي مزور أخبارا عن حماة يعلم بأنه يكذب، ولكن هذه هي جدلية الإنسان.. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا. هناك من يقسم باللات والعزى أن السماء لو انطبقت على الأرض ما هوى ولا سقط النظام السوري، فهو أبدي سرمدي أزلي مثل كل الأصنام التي أعناقهم لها خاضعة. عجيب ما كنا نرى من ترداد شعارات القائد الأبدي، ولا أبدية إلا لله الحي القيوم، ونحن بشر نموت ويعترينا ما يعتري كل الكائنات من الألم والضعف والشيخوخة والمرض، ثم يلتهمنا الموت كوجبة لذيذة، فلا تسمع لنا ركزا. في سوريا الأسد، أينما مشيت وحللت رأيت صورة القائد الأبدي. وفي موت الأب، تحولت دمشق إلى حلة غربان سوداء، والويل لمن لايغطي زجاج السيارة الخلفي ويخالف قوانين المرور العالمية بصورة القائد الأبدي الذي التهمه الموت مثل أي حشرة. كنت في خان أرنبة أراجع، فاجتمعت بطبيب رابني أمره، يترنح ولا يركز، قال لي مرافقي زيد إنه سكران كالعادة. لكن ما لفت نظري في ذلك المستوصف الصغير القميء هو صور اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، عفوا.. صور العائلة الأسدية. عددت الصور، كانت سبعة عشر بالتمام والكمال. حجم الصورة ربما بلغ بالأمتار المربعة ومن النوع الصقيل والثمين تؤخذ من آخر قرش من جيب مواطن مفلس يلبس الأسمال. تذكرت قول الصادق النيهوم الليبي، الذي لم تكتحل عيناه بسقوط الديكتاتور رقم ثلاثة! إنها ميزانية الدول الفقيرة تنفق على المخابرات وتأليه الزعيم وهي محنة تذكر بامتلاء فروة الثعلب بالبراغيث. ظننا مع تهاوي المهرج الليبي أن الأمر قد يطول، ولكنه يخضع لقانون (الطفرة) حين تتراكم الأحداث إلى الحد الحرج، فلا يتحمل فرط الضغط فيتهاوى مثل صنم ثقيل. القرآن يتحدث عن الديكتاتورية والديمقراطية بتصوير شجرتين من الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فأما الأولى فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأما الخبيثة فتجتث من فوق الأرض ما لها من قرار. إذا أردنا ضغط (قانون الطفرة) في هذه المجموعة المتماسكة من عتبات الوجود ومستوياته، انتهينا إلى أن كل مستوى وحقل له حده الحرج. وأنا استفدت هذه الفكرة من كتاب سجناء العالم الذري لأوبنهايمر حين تحدث عن الكتلة الحرجة في القنبلة النووية، وأظن أنها في حدود 60 كيلوغراما من مادة البلوتونيوم وربما أقل من عشرين كيلوغراما لليورانيوم 235؛ فكما نعلم، السلاح الذري هو نوعان من قنبلة الرجل السمين البلوتونيوم، والولد الصغير من اليورانيوم المخصب 235 الذي تتلمظ له إيران حاليا لامتلاكه مثل أصنام بني إسرائيل حين قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والسبب بسيط، فالسلاح النووي نادٍ أغلقه أصحابه في الوقت الذي تدخله إيران، وكما يقول فؤاد زكريا في كتابه «خطاب إلى العقل العربي» فهو سلاح ليس للاستخدام بحال، فلماذا يُصَّنع إذن؟ الكتلة الحرجة في السلاح الذري، والدرجة الحرجة في غليان الماء، والاحتشاد العاطفي في العتبة الحرجة تدفع الدموع في المآقي، وكذلك التوتر الاجتماعي حين يصل الحافة الحرجة ينفجر، وكذلك كان قدر العالم العربي الذي يغلي في طنجرة واحدة فانفجر. كان بإمكان القيادة السورية التقاط النبض الخفي للثورة، ولكنها تتمتع بعمى تاريخي بامتياز، ومازالت تظن أن اغتصاب المرأة يجعلها زوجة شرعية. إن الفرق بسيط وكبير بين الزنا والاغتصاب والزواج، فكله علاقة جنسية وكله يخرج منه الجنين بدون أن يعرف عن أصل العلاقة شيئا، فالحيوان المنوي ليس شيعيا وعلويا وخلفيا وسلفيا وسنيا وكاثوليكيا وعلمانيا، بل سائل يمشي بقانون الله، ومتى اجتمع الحيوان المنوي الصغير بالبيضة لقحها ولم يسال كيف تمت العملية؟ ولكن المجتمع الإنساني غير مجتمع قرود البابون وذكور النحل والسحالي والقطط والكلاب والببر وجراد الحقل. ومنذ أن بدأت قصة الشجرة المحرمة في الشرائع دخل البشر حالة القانون، فكان الزواج والسفاح والزنا والاغتصاب. الاتصال الجنسي سرا أو رضى أو اغتصابا كله اتصال، ولكن يفرق بين الأمرين ما يفرق بين الجراحة المعقمة في غرف العمليات وتقطيع اللحم عند الجزار. النظام السوري اغتصب الدولة واختطف الأمة بأكملها لمدة نصف قرن، فكيف كان عذاب! هناك أفكار خطيرة تروج وتسري هذه الأيام عن عسكرة الثورة، وهي صادرة من جاهل بعلم الاجتماع، أو جاسوس لنظام البعث، أو إيديولوجي لا يفهم سطور القرآن بأكثر من مرور حشرة العت فوق الصفحات. وفي القرآن أن من يحمل الكتاب على ظهره قد يكون الحمار الذي يحمل أسفارا، بئس مثل القوم. ومن يرفع صوته لا يعني بالضروة قوة الحجة، وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير. يجب الاستمرار في تراكم العمل السلمي إلى حين ولادة الطفرة. بكل أسف، ليس عندنا من علماء الاجتماع من يقولون أين هي الحافة الحرجة للغليان الشعبي وسقوط النظام. ولكن بالتأكيد، ستصل الثورة إلى الحافة الحرجة التي يسقط بعدها.. إنه مجنون حاليا يقطع حنجرة القاشوش المغني والأعضاء التناسلية عند طفل مثل حمزة الخطيب ثم يكسر ذراع فرزات رسام الكاريكاتور.. كلها في تعبيرات هستيرية عن نظام فقد عقله فهو يترنح. إن قصة تحطيم أداة الفن من حنجرة تغني وذراع يكتب مقالة يذكرني بقصة سليم اللوزي، رئيس تحرير مجلة الحوادث اللبنانية، حين كتب تحت كاريكاتور للأسد الكبير: لماذا يكذب النظام؟ خلال فترة قصيرة أغروه بالقدوم من لندن إلى لبنان لحضور جنازة أمه فأمسكوا به وكسروا أصابعه التي بها يكتب، قبل أن يقتلوه ويلحقوه بأمه في دفن واحد مشترك وتنشر المجلة عددا باللون الأسود. هذا يذكرني أيضا بفيلم «الهلوكوست» عن ذلك الفنان الذي حطموا أصابعه حتى لا يرسم، فرسم آخر صورة ومات فوقها وقوات الحلفاء تحرر المعتقلين من أسر النازيين. سوريا في يد النازية البعثية تتقلع الحناجر وتكسر الأصابع وتقطع الأعضاء التناسلية وتقتحم المساجد بالنعال البعثية، فليس من محرم عندها. في القرآن قصة معبرة عن الجن المساكين المرهقين بالأحمال والأصفاد وهم يمرون بين يدي سليمان ولم ينتبهوا إلى أنه شبع موتا وليس أكثر من جسد فوق كرسي. من نبه قريحة القوم وأيقظ الجن من شعور مهين بالعذاب كان حشرة صغيرة تأكل عصا النبي الراحل، فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خرَّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. ماهي الحافة الحرجة في الثورة السورية كما كان الحال مع نهاية المهرج الليبي؟ لا أحد يتكهن، وكل من يقول لا يزيد على رجم بالغيب، ولكن الأكيد أمران أن استمرار الثورة في الزخم السلمي سوف يعبر عتبة خلف عتبة من الإنجازات، وكل موت ومعاناة ستصهر الأمة على نحو أفضل. والأمر الثاني هو أن قدر الثورات أن الشعوب تكتشف نفسها فجأة كما قال الكاتب السعودي تركي الحمد إنها فيل مربوط بحبل فيقول: كل هذا الحبس كان بهذا الحبل السخيف.. انتهى/