أذكر أنه، في خريف عام 2008، خاضت حركة من مختلف الجنسيات، أطلقت على نفسها «إنسانيون جدد» مسيرة سلمية عالمية، اجتازت الفصول الأربعة بقطعها لكل قارات الكرة الأرضية، رافعة شعار «عالم بدون حروب».. لا أخفيكم كيف اجتاحني شعور طفولي غريب وبدت لي الفكرة غاية في النبل، رغم الطابع المفرط الذي يطبعها. خِلتُ نفسي مشاركا فيها، أصرخ في وجه تجار الحروب قائلا: «كفى من الدمار والتقتيل وجهنم الأرض!».. خلتُ نفسي أدخل التاريخ من بابه الواسع، إلى جانب «الإنسانيون الجدد»، ويتحقق على أيدينا ما عجز عنه دعاة السلام ورموز الخير والعدل عبر التاريخ الطويل.. خلتُ حفنة الأشرار التي ابتليت بها البشرية من الحكام الطغاة المستبدين الذين لا يجمع بينهم إلا شيء واحد: نفسٌ شريرة جعلتهم صورة متكررة من صور الشر على وجه هذه البسيطة ووصمة عار على جبين البشرية، يقتنعون بدعوتنا إلى إيقاف مسلسل الجرائم ضد البشرية ويتراجعون عن غيّهم ويعيدون النظر في 10 في المائة مما ينفقه العالم على الأسلحة المدمرة، كما تقول الإحصائيات، لإنفاقها في ما يعود بالنفع على البشرية، لتحقيق التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق الرفاه لسكان الأرض.. وهذه النسبة، حسب الراسخين في الاقتصاد، بإمكانها القضاء النهائي على المجاعة في العالم و50 في المائة منها فقط كافية، لو صُرِفت من أجل تحسين مستوى عيش الشعوب، لتشكيل أنسجة مجتمعية بألوان أكثر انفتاحا وتوردا أمام العالم، عوض الواقع الحالي، المُتّسم بالقتامة والخوف. آه! لو تحقق ذلك لَمَا اختزلت الكون كلّه ومتّ بلا حسرات! فركت عينيَّ جيّدا، كما يفعل المستيقظ من نوم عميق بعد أحلام لذيذة، وبدأتْ تحضرني بعض الكتابات التي كانت سائدة في القرن السادس عشر، تجعل من الدفاع عن القيّم الإنسانية رافعة بأهداف سامية، تغلب عليها المعاني الإنسانية، إنسانية مناضلة، كما يحلو للبعض وصفها، أو كما عرَّفها فولتير: «إنسانية ترفض القتل والتعذيب والظلم والاستعباد وتنادي باحترام الحقوق الأساسية للإنسان». ثم عدت أتفحص فكرة فلسفة «الإنسانيون الجدد»، هل هي خالصة وخالية من التسييس، وليس السياسة، لأن السياسة علم وفن أما التسييس فهو تحويل ما لا علاقة له بالسياسة إلى أداة من أدوات السياسة: فكم من المضامين الفلسفية العميقة للأفكار تمّ تجميعها واختزالها، فتحولت إلى ضحية أدلجة في النهاية، مثلما حدث مع «الهيكلية» و»النيتشوية»، اللتين تحولتا إلى إيديولوجيتين تبرران العنف والدم والتفوق العرقي، كما فعلت النازية حين استعارت فكرة «هيكل» عن الدولة وفكرة الإنسان المتفوق عند نيتشه، وأضافت إليهما أفكار أخرى ومزجت هذه الأفكار، حسب رؤيتها وأهدافها. وكان من الطبيعي أن تنتهي إلى ممارسة العنف على نطاق واسع. ومما يؤثر في هذا المجال مقولة ماركس، في آخر حياته، تعليق على ممارسات الشيوعيين: «إذا كانت هذه هي الماركسية فأنا لست ماركسيا»!.. وأنا أجزم أن هذا ما يمكن أن يقوله هيغل ونيتشه وغيرهما، وفي ذلك خطر، طبعا.