بدأ التحالف الغربي الذي يشن حربين دمويتين في كل من العراق وأفغانستان بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، تحت ما يسمى بمكافحة الإرهاب، يقترب أكثر فأكثر من لحظة الحقيقة، والاعتراف بأن هذه الحرب الباهظة التكاليف من الصعب كسبها، ولكن الآليات التي يفكر في اللجوء إليها للخروج من هذا المأزق مازالت تعكس قصورا في التفكير، وعدم القدرة على قراءة الأوضاع بشكل صحيح على الأرض. البريغادير مارك كارلتون سميث، القائد العسكري البريطاني الكبير قال في تصريحات لصحيفة «الصنداي تايمز»: «ان الحرب ضد حركة طالبان لا يمكن الانتصار فيها لأن الوقت لم يعد وقت انتصارات وإنما مفاوضات مع حركة طالبان». وربما يفيد التذكير بأن الحرب على الإرهاب التي انطلقت قبل سبع سنوات بالكمال والتمام، استهدفت إطاحة حكم طالبان، وتدمير هذه الحركة التي وفّرت ملاذا آمنا لتنظيم «القاعدة»، واعتقال أو قتل زعيمي الحركتين، أي الشيخين الملا محمد عمر وأسامة بن لادن. هذا التغير في المواقف الغربية تجاه حركة طالبان أملته أسباب عديدة يمكن تلخيصها في النقاط التالية: أولا: تعاظم الخسائر البشرية والمالية الغربية في أفغانستان بسبب العمليات العسكرية التي يشنها رجال طالبان مدعومين من تنظيم «القاعدة»، وهي العمليات التي أسفرت حتى الآن عن مقتل 600 جندي أمريكي وإصابة مئات آخرين. ثانيا: انهيار شبه كامل لدولة باكستان، وتحوّلها إلى «دولة فاشلة» غير قادرة على السيطرة على حدودها وأراضيها. فمنطقة وزيرستان الحدودية بين أفغانستانوباكستان التي تبلغ مساحتها 30 ألف كيلومتر مربع أصبحت إمارة إسلامية مستقلة بقيادة اللواء جلال الدين حقاني، وأصبحت طالبان أفغانستان تسيطر على ثلثي أراضي البلاد تقريبا. ثالثا: العمليات العسكرية الأمريكية داخل الأراضي الباكستانية لضرب تجمعات «القاعدة» وتنظيم طالبان باكستان أحرجت حكومة باكستان، وصوّرتها كدمية في يد الإدارة الأمريكية، لا تحترم سيادة أراضي بلادها، مثلما حشدت أغلبية الباكستانيين ضد الولاياتالمتحدة ومعارضة أي حرب معها ضد القاعدة وطالبان (80 في المائة حسب استطلاع غالوب أجري في شهر حزيران (يونيو) الماضي). رابعا: فشل حكومة حامد كرزاي في السيطرة على أفغانستان واكتساب ثقة شعبها، بحيث انحصرت هذه الحكومة في أحد أحياء كابول، ولم تعد قادرة على الصمود في وجه زحف طالبان نحو العاصمة. والأكثر من ذلك تفشي الفساد في صفوفها، وهو فساد بلغ قمته عندما تبين أن شقيق الرئيس أحمد ولي كرزاي متورط في تجارة المخدرات. خامسا: عودة تنظيم «القاعدة» إلى أفغانستان بصورة أقوى مما كان عليها قبل الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، من حيث تمتعه بملاذ آمن أفضل في المناطق الحدودية (وزيرستان) في الشمال الشرقي، وهلمند في الجنوب، حيث أقام قواعد لتدريب كوادره، وبات يتمتع بمساندة حركة طالبان، بأجنحتها كافة، بما في ذلك الجناح الذي كان يطالب بتسليم بن لادن للأمريكان أو السعودية للحفاظ على حكم الحركة. سادسا: «القاعدة» وظّفت خبراتها العسكرية في العراق في خدمة مشروع طالبان في أفغانستانوباكستان، مثل القنابل الجانبية على الطرق التي تستهدف القوافل العسكرية، والعمليات الانتحارية التي لم تكن موجودة مطلقا في أفغانستان قبل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). فالقاعدة وحسب التقارير الميدانية نفذت حوالي 700 عملية انتحارية في العراق، وثلاثين عملية في باكستان منذ بداية العام. سابعا: عودة «القاعدة» في أفغانستانوباكستان باتت تشكل خطرا كبيرا على أمن الولاياتالمتحدة وأوروبا الداخلي على وجه الخصوص، لأن الغالبية الساحقة من عمليات التنظيم الأساسية في أوروبا وأمريكا جرى التخطيط لها من أفغانستان، (ضرب برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك، تدمير المدمرة كول في عدن، نسف السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، مهاجمة سياح أمريكان في بالي باندونيسيا، نسف الكنيس اليهودي في جربة بتونس). ولم ينجح تنظيم «القاعدة» في تنفيذ أي عملية كبرى في الغرب انطلاقاً من العراق. ثامناً: أفغانستان تشكل «صرة آسيا» ولها حدود مع سبع دول، ولذلك يصعب حصارها مثل العراق المحاط بدول معادية منخرطة في الحلف الأمريكي، باستثناء سوريا التي أقفلت حدودها بالكامل في وجه «المجاهدين» الأمر الذي أدى إلى تدفق آلاف الإسلاميين للانضمام إلى صفوف التنظيم من دول «المغرب الإسلامي» واليمن وتركيا، وهؤلاء سيعودون إلى بلادهم وربما إلى أوروبا والغرب بعد تلقي التدريبات العسكرية، والتعبئة العقائدية. تزايد النداءات بفتح حوار مع طالبان ربما يبدو في ظاهره اعترافاً بالهزيمة، ولكنه قد يكون أيضا خطة ذكية مدروسة، الهدف منها دق إسفين بين الحركة وتنظيم «القاعدة» حليفها الاستراتيجي، بمعنى تكرار سيناريو الصحوات في العراق. فقد استطاعت الأموال الأمريكية المدعومة بتحرك ذكي لاستخبارات عربية في شراء ذمم بعض شيوخ العشائر، من خلال التركيز على فكرة أن تنظيم «القاعدة» إرهابي غريب عن العراق، لا بد من عزله، وساهمت بعض ممارسات التنظيم التكفيرية في إنجاح هذا التوجه مثل قطع الأيدي والأصابع وتفجير الأبرياء واغتيال الخصوم، من مخالفي فكر التنظيم دون تمحيص. احتمالات نجاح خطط فصل «القاعدة» عن طالبان تظل محدودة، أن لم تكن شبه معدومة، لأن المجتمع الأفغاني كله مجتمع محافظ وأصولي متطرف، يؤمن بالمذهب الحنفي، ثم إن غالبية أفغانستان الساحقة من السنة على عكس العراق، مضافاً إلى ذلك أن «القاعدة» ليس تنظيماً غريباً في أفغانستان، ومعظم أعضائه يعرفون البلاد جيداً، ومتزوجون من أفغانيات. الأهم من ذلك أن قبائل الباشتون تعتد بنفسها، وترفض التفريط بمن استجار بها وفقاً لمبدأ «باشتون والي» الذي يعتبر تسليم أو طرد المسلمين عاراً كبيراً، وهذا ما يفسر رفض الملا محمد عمر تسليم الشيخ أسامة بن لادن تحت ضغط الحكومة السعودية، وأقدم على إبعاد الأمير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستخبارات السعودي من مجلسه لأنه تجرأ على القول بأنه لن يغادر إلا ومعه بن لادن على الطائرة نفسها وإلا فإن طالبان ستدفع ثمناً غالياً. الملا عمر عرض أن يقدم الشيخ أسامة بن لادن إلى محكمة إسلامية أمام قضاة من علماء يمثلون دولاً إسلامية عدة، فإذا أقرت المحكمة بأنه أقدم على أعمال إرهابية، وقررت تسليمه، فسيقوم بذلك، أما إذا رفضت فلن يسلمه، وقال كلمته الشهيرة: لن أسلم مسلماً لدولة كافرة. وهكذا فإن الحديث عن وساطة سعودية مع حركة طالبان بطلب من حامد كرزاي لا يستند إلى أي منطق، فالعلاقات السعودية مع حركة طالبان متوترة، والأولى تعلن حرباً دموية ضد تنظيم «القاعدة»، وشاركت بقوة في الحرب الأمريكية للإطاحة بتنظيمي «طالبان» و»القاعدة» في أفغانستان. طالبان تشعر أنها على أبواب نصر كبير في الحرب ضد أمريكا وحلفائها، ولهذا لن تقبل مطلقاً بالتفاوض إلا إذا ضمنت انسحاباً أمريكياً غربياً كاملاً وتسلم الحكم في كابول، وإعادة قيام إمارتها الإسلامية مجدداً. أما تنظيم «القاعدة» فيعتبر نفسه شريكاً في هذا الانتصار، بل وتشير أدبياته إلى أنه يقف خلف مسلسل الانهيارات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية الحالية، فليس صدفة أن ما يطلبه الرئيس الأمريكي جورج بوش من مبالغ مالية (700 مليار دولار) لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي، هي نفسها كلفة الحرب على الإرهاب التي يتبنى التنظيم إطلاقها. بداية الانهيار السوفييتي بدأت بالهزيمة في أفغانستان وبداية الانهيار الأمريكي تبدأ مثلها أيضا، فنظرية البروفسور بول كندي أستاذ التاريخ في جامعة ييل الأمريكية حول صعود وهبوط القوى العظمى تتجسد بوضوح حالياً، فقد قال إن هناك ثلاثة أسباب لسقوط الإمبراطوريات العظمى، أولها تصاعد الإنفاق على الأمن الداخلي، وثانيها التوسع في الحروب العسكرية في الخارج، وثالثها ظهور منافسة قوية تجارية واقتصادية من قوى عظمى ناشئة. هذه الأسباب جميعاً تنطبق على أمريكا. فتكلفة الإنفاق على الأمن الداخلي في ذروتها تحسباً لعمليات إرهابية، وحربا العراق وأفغانستان استنزفتا الخزانة الأمريكية، والقوى العظمى الجديدة التي تنافس أمريكا تجارياً واقتصادياً تتمثل حالياً في الصين وروسيا والهند وأوروبا.