في 17 فبراير الجاري مرت الذكرى ال23 لتوقيع معاهدة مراكش لإنشاء اتحاد المغرب العربي. في ذلك الوقت، عام 1989، ولد أول طموح مغاربي لبناء اتحاد إقليمي منذ مؤتمر طنجة الشهير عام 1958، الذي لم يقيض له أن يرى النور بسبب الخلافات التي ظهرت في مرحلة ما بعد الاستقلال، خاصة في الجزائر التي دخلت حقبة جديدة طابعها الحكم العسكري، مع ما يجره ذلك من صراعات بين أجنحة الحكم، وكذا في ليبيا التي نظم فيها انقلاب على الملكية في نهاية الستينيات، علاوة على أن كل ذلك حصل في فترة من التاريخ كان فيها الانقسام حادا بين الجمهورية والملكية في العالم العربي، وبين الاشتراكية والرأسمالية على الصعيد العالمي، وهو ما ترك ترسبات عميقة عربيا، جهويا وإقليميا. لكن نهاية الثمانينيات، التي ولدت فيها معاهدة مراكش الشهيرة، كانت مرحلة انعطاف كبير عربيا ودوليا، في تلك الفترة ظهرت البروسترويكا السوفياتية، التي أرادت أن تكون إصلاحا للاشتراكية، فتحولت إلى وسيلة هدم لها بشكل نهائي، وأخذ إشعاع الفكرة الاشتراكية في العالم العربي يضمر كليا لصالح البناء السياسي المؤسس على الاقتصاد والاندماج الإقليمي على الصعيد العالمي، وبدأت أوروبا تبحث عن إطار جديد يطور السوق المشتركة نحو آفاق اندماجية أوسع، ويدرس توحيد العملة وبناء إطار عسكري موحد، متأثرة بالصراعات العرقية التي بدأت تظهر داخل أوروبا الشرقية، والتي أظهر فيها تدخلا عسكريا للحفاظ على أمن أوروبا. وشكل هذا التحول الأوروبي تحديا بالنسبة إلى بلدان المغرب العربي التي وجدت نفسها معزولة أمام المجموعة الأوروبية التي أخذت تتقوى أكثر فأكثر لمواجهة الهيمنة الأمريكية، متجهة نحو الاتحاد الأوروبي الذي ظهر فيما بعد، فكان على بلدان منطقة المغرب العربي الخمسة أن تبحث عن منظومة إقليمية لتوحيد صفوفها لمسايرة توازن إقليمي جديد بدأ يتشكل في المتوسط. كانت الجزائر في ذلك الوقت قد خرجت من ثورة كبيرة حدثت في العالم الذي قبل توقيع معاهدة مراكش، وأخذت تتجه نحو التعددية الحزبية والانفتاح الديمقراطي، مع ما يعنيه ذلك من تخفيف قبضة الجيش على مؤسسة الحكم ومن ثمة على السياسة الخارجية، التي كانت حكرا على النخبة العسكرية منذ عهد الهواري بومدين بسبب حاجة الجزائر إلى التوسع الإقليمي ومحاولة لعب دور عربي من المغرب العربي عبر تبني الخيار الاشتراكي. وفي الوقت الذي أعلن عن اتحاد المغرب العربي كان ذلك التوجه الجديد الذي ارتضاه الشاذلي بنجديد للجزائر يزعج الدوائر العسكرية داخل البلاد، وبالطبع كان لا بد أن يكون التقارب بين المغرب والجزائر -من خلال الاتحاد المغاربي-النقطة الأكثر إزعاجا، لأنه يعني أن لعبة القوة الإقليمية بين البلدين انتهت، وأن ملف الصحراء الذي كانت الجزائر ترى أن خيار الحرب هو الحل الطبيعي له -من موقع الرغبة في لعب ذلك الدور المذكور سابقا- أصبح واحدا من المواضيع الأخرى، التي يمكن أن تحل داخل الاتحاد المغاربي في إطار رؤية خماسية ستذيب الدور الجزائري. وما كادت بداية التسعينيات تهل حتى دخلت الجزائر عشرية الدم بعد الانتخابات التي حقق فيها حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا كاسحا دفع الجيش إلى الانقلاب على صناديق الاقتراع والعودة بالبلاد إلى ما قبل الانفتاح الديمقراطي المحتشم والدستور الجديد الذي يكرس التعددية، وقدم بنجديد استقالته مدفوعا إليها، وهو صاحب التوقيع باسم الجزائر في معاهدة مراكش، وانتهت مرحلة بكاملها، ودخل اتحاد المغرب العربي قاموس الاتحادات الإقليمية التي ولدت لكي تموت. منذ ذلك التاريخ لم يعد الاتحاد المغاربي يمثل شيئا بالنسبة إلى بلدان المنطقة، وأصبح مجرد إطار فارغ من المحتوى، رغم الاجتماعات التي كانت تعقد والقمم المغاربية التي عقدت في السنوات الأولى، واكتشف الزعماء المغاربيون أن تلك الاجتماعات ليست سوى مضيعة للوقت لأنها لم تؤد إلى أي نتيجة تذكر. كما اكتشف المغرب أن تلك القمم لا تشكل مناسبة للحوار حول القضايا العالقة، وأن السياسات الخارجية الجزائرية تجاه الصحراء لم تتحرك في الاتجاه الإيجابي، لكي يقتنع بأن عدم حضور تلك القمم الشكلية هو الرد المناسب. ويمكن القول إن الربيع العربي اليوم قدم معطيات جديدة على مسرح الواقع المغاربي، يمكن أن تدعم إحياء هذا الاتحاد المغاربي على أسس جديدة. إن زوال النظام التونسي والنظام الليبي، والتحولات الكبرى التي حصلت بالمنطقة، وأقنعت باقي البلدان التي لم يحدث فيها تغيير جذري مثل المغرب والجزائر وموريتانيا، من شأنها أن تؤدي إلى إحداث تحول أعمق في التعامل مع قضايا الاندماج والنزاعات الإقليمية. وفي هذا السياق يشكل انعقاد اجتماع وزراء خارجية البلدان الخمسة في الرباط بداية هذا التوجه، وفي حال الوصول إلى عقد قمة مغاربية بعد جمود طويل لهذه المؤسسة فإن الاتحاد يمكن أن ينبعث مجددا على أساس تجاوز الخلافات الرئيسية بين المغرب والجزائر حول الصحراء، التي كانت - أي الخلافات- أصل الجمود الذي شهده الاتحاد المغاربي في السنوات الماضية. ولعل مصادفة انعقاد جولة جديدة من المفاوضات بين المغرب والجزائر في الشهر المقبل حول الصحراء مع اجتماع وزراء الدول المغاربية قد تدفع البلدين الرئيسيين في المنطقة إلى التفكير في أقرب طريق نحو حل نزاع الصحراء، على اعتبار أن الجميع بات على يقين اليوم بأن حل هذا النزاع هو بداية البناء المغاربي، بينما كان الجميع يرى في السابق أن البناء المغاربي كفيل بحل مشكلة الصحراء، لكي يظهر اليوم أن العكس هو الصحيح.