عندما مات رْويشة، تذكرنا فجأة هذه الموسيقى الجميلة التي كنا نمتلكها بين أوتار رجل قرر ألا يخرج من خنيفرة، لكن نغمات عوده دخلت منازل كل المغاربة. لم يرحل رْويشة نحو الرباط أو الدارالبيضاء بحثا عن الشهرة وأضواء الكاميرات والتزاحم مع فناني الرّغْوة، لكن كل الشهرة جاءت عنده حتى ثنايا الأطلس، وهو الذي ظل زاهدا فيها ويعيش بوهيميته الجميلة حتى وافاه الأجل. أتذكر أنه قبل أزيد من عشر سنوات، مررت عبر خنيفرة في زيارة خاطفة، وسألت عن منزل هذا الرجل الذي تسحرني أغانيه. قيل لي وقتها إنه مريض، وقد ظل لسنوات طويلة يعاند المرض في كبرياء، وكان لا بد أن يستسلم يوما. اكتشفت أغاني رْويشة أيام كنت طالبا في الجامعة. كانت أوتار عوده اكتشافا كبيرا، وتساءلت كيف يمكن للمرء أن يكتشف متأخرا إلى هذا الحد رجلا جمع كل هذه القوة في الغناء والرخامة الرائعة في الصوت وهذا الحزن العميق بين ثنايا صوته؟ غنى رْويشة بالأمازيغية والعربية، وعشقت أكثر أغانيه بالأمازيغية، ربما لأنني لم أكن أفهم جملة منها، لكني أحسست بأنه يغني من أجلي ومن أجل أشباهي من المغاربة الذين يولدون ويموتون وتبقى في نفوسهم غصة عميقة حتى القبر. عندما رحل رْويشة أحسسنا جميعا كأننا نرمي كنوزنا في الماء، لأننا عادة ما ننتبه إلى ما ضاع بعد أن يضيع، نحن الذين نعطي الملايير لمطربات ومطربين قادمين من الشرق لكي يغنوا لنا أي شيء لربع ساعة، ولا ننتبه إلى فنانينا الحقيقيين الذين يغنّون بالمجان عن همومنا وآمالنا. من حق أولئك الذين يأتون عندنا لجمع المال، مقابل لحظات من شطحاتهم، أن يسخروا منا، فنحن في بلد يقص أجنحة فراشاته ويلهث خلف ذباب الآخرين. رْويشة رحل، وقبل أن يمرض كان رجلٌ قد مرض قبله، وربما لن ننتبه إليه قبل أن ينزل علينا خبر رحيله في نفس المكان تقريبا الذي رحل فيه رْويشة، في نواحي خنيفرة.. موحا أولحسين أشيبان ويسمونه أيضا «المايسترو»؛ يقال إن الرئيس الأمريكي الراحل، رونالد ريغان، هو الذي أطلق عليه هذا اللقب بعد أن شاهده في أحد عروضه. عموما، لم يكن هذا الرجل في حاجة إلى أحد لكي يكون مايسترو، فقد أبهر كثيرين، وظلت ملكة إنجلترا مشدوهة أمامه خلال زيارتها للمغرب، لكن المهم ليس أن ينبهر بنا الآخرون، بل أن ننبهر نحن بأنفسنا. من المؤسف أن فننا الحقيقي بقينا نسوّقه أمام الضيوف الأجانب فقط، بينما نجثو أمام أول مغنية نصف عارية تقف أمامنا. أتذكر قبل حوالي 13 سنة، حين فوجئنا داخل مقر عملنا برجل ينظر نحونا بود وهو يبتسم. خلنا أننا ننظر إلى شاشة تلفاز عملاقة، لكننا اكتشفنا أن «المايسترو» جاء من قريته في «أزرو نايت لحسن» حتى الدارالبيضاء، ليس لكي يقدم إلينا عرضا من «أحيدوس»، بل ليكشف لنا وجها من وجوه الفساد المرعبة في هذه البلاد. حين انتهينا من التسابق كأطفال لالتقاط صور مع «المايسترو»، أخبرنا قريب للرجل أنه جاء للتشكي حول مصير رخصة نقل منحت له من طرف «جهة عليا»، لكنها لم تصله أبدا. لم نصدق في البداية ما نسمعه، قلنا إن هذا الرجل، الطيب جدا والقنوع جدا، لا يمكن لأيادي الفساد أن تعبث معه، لكننا حين شاهدنا صور البيت الذي يسكنه أصبنا بالحيرة. قلنا مع أنفسنا: هل هذا هو منزل المايسترو فعلا؟ وقتها، بدا لنا أن المايسترو الحقيقي في هذه البلاد هو الفساد الذي ينهب أعطية بسيطة مُنحت لرجل يسكن منزلا شبيها بكوخ وصدى «بنْديره» يصدح في العالم كله. ألا يستحق هذا الفساد أن نمسك برأسه ونضربه بحائط حتى يرتج دماغه؟ رحل رْويشة، الذي تنساب أنغام أوتار عوده كوديان عذبة بين وهاد الجبال، وأقعد المرض المايسترو أشيبان، الذي يصدح «بنْديره» بين ثنايا الجبال كما يصدح عصفور مرح بين ثنايا قلب حزين. أما نحن، فسنستمر فاغري الأفواه أمام فنانات وفناني الرّغْوة القادمين إلينا من كل مكان. نحن، فعلا، بلد يقص أجنحة فراشاته ويلهث وراء الذباب.