بعد أيام من إطلالة السنة السادسة على توقف قلبه عن الخفقان و«انطفاء» مشعله، تكون الحركة الوطنية المغربية قد فقدت – برحيل محمد الفقيه البصري- أحد أركانها السياسية المبدئية وأحد فرسان المقاومة، الذي طبع بحضوره المؤثر بعض المفاصل المركزية للسيرة الذاتية الكفاحية للرعيل المؤسّس من القادة التاريخيين لأهم فصائل المعارضة المغربية، أمثال الشهيد المهدي بنبركة والشهيد عمر بنجلون والراحل عبد الرحيم بوعبيد... لقد ساهم الفقيد الكبير إلى جانب قسم مهم من الرعيل الأوّل وإن بتفاوتٍ في الدرجة والطبيعة، ومن مواقع فعله الخاصة والمتعدّدة، في صياغة ما تعتبره هذه القراءة السريعة أزمنة المقاومة الثلاثة للمعركة التاريخية المفتوحة والممتدة على أكثر من صعيد حزبي وجبهة وطنية وقومية، وهو ما يعني في مفهومنا إرث ذاكرة وطنية مقاتلة. تفصح هذه الأزمنة عن نفسها في إطار تجربة تاريخية ملموسة ومتحقّقة في الواقع وفق الأشكال التالية: زمن مقاومة الاحتلال- زمن المقاومة السياسية- زمن المقاومة القومية. لقد طُبع زمن مقاومة الاحتلال بهيمنة نمط من التحالف التاريخي بين ثلاثة أقطاب، تمثلت أساسا في القصر وحزب الاستقلال والمقاومة وجيش التحرير، حيث لعبت هذه المكونات دورها المشهود – وإن بدرجات مختلفة التفاوت والأثر المادي- في كسب رهان ناصية الاستقلال النسبي، غير أن هذه الأقطاب لم تفلح في صيانة تحالفها التاريخي الذي ربطها إبان تجربة النضال والمقاومة من أجل التحرير ولقد شكلت الواقعة الانشقاقية التي عصفت بوحدة حزب الاستقلال السياسية والتنظيمية (1959)، ترجمة فعلية صريحة أعلنت عن بداية تفكك ذلك التحالف، بل وانهياره لاحقا بعد الإطاحة بالحكومة الوطنية للراحل ذ عبد الله إبراهيم. إذ عاش «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» تجاذبات سياسية بين تيارات مؤثرة وقوية نظمت معارضة شرسة وفاعلة لم يسقط بعضها من مدخله خيار القوة المسلحة، وضدّ نظام الراحل الحسن الثاني ضمن سياق الزمن السياسي الذاتي لحركة التحرير الشعبية». غلب على زمن المقاومة السياسية المبدئية، تبني «الاتحاد الوطني» لاستراتيجية تغييرية، أعلنت عن بداياتها التأسيسية مع بلورة مشروعه المجتمعي البديل- الذي اتسع لمجموعة من الاصطفافات الاجتماعية- على قاعدة التحزّب لخيار المواجهة المفتوحة مع النظام وعلى أرضية سؤال شرعية السلطة ذاته. لقد تمخض عن هذا التحزب إسكات بنادق المقاومة وتصفية ما تبقى من صهيل الجيوب النّافرة «للشعبوية» المغربية، لتتحرك أيادي عصابات الاختطاف والتصفية الجسدية والأقبية السرية وزوار الفجر ضدّ ناشطي «الاتحاد الوطني» وخلايا المنظمات الماركسية، التي انتمى قسم من فاعليها ومناضليها إلى القطاع الشبيبي «للاتحاد الوطني». قبل تبنّيها لأطروحة «التحويل الثّوري» للمجتمع عبر قيادة طبقية، ولقد جسّد الجنرال أوفقير بسجلّه الدموي الرهيب مؤشر مرحلة ساخنة وعنوانها التصفوي بامتياز. في أغلب محطات الزمن الثاني لم يغب الفقيه البصري – رغم منفاه- عن حسابات الصراع السياسي ومقاصده، بل ظل طيفه وطرحه حاضرا في الساحة الوطنية، وسرعان ما عاد بقوة إلى واجهة الصورة الحزبية، بعد حدث المؤتمر الاستثنائي عبر التلويح ب«الاختيارالثوري» بحسبانه الإجابة السياسية الموضوعية عن محطة «التشظّي» التي أعلن عنها التقرير الإيديولوجي «للإتحاد الاشتراكي». باعتباره التجسيد السياسي الكياني لحدث القطيعة مع مشروع «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» المجهض، على هذا الأساس ظل الفقيد محمد البصري مؤتمنا وفيّا ًعلى إرث فكرة تجديد مشروع «الاتحاد الوطني». الذي يتّسع- حسب تصوره – لجميع الأطياف والتوجهات السياسية والفكرية، بدءاً من «أقصى اليسار» حتى صنف محدّد من الناشطين الإسلاميين، على شاكلة إسلاميي «المؤتمر القومي- الإسلامي» تحت وطأة المنفى وتنامي وعيه الحادّ بالمصير المشترك للشعوب المقاتلة من أجل الحرية/ نجح الراحل محمد البصري في ربط علاقات نضالية بجيل من القيادات التاريخية الوطنية والقومية، ومن مشمولاتها الجزائرية والمصرية والسورية والعراقية... وقد ساعد محيط هذه العلاقات القومية الرسمية والشعبية في تعميق ومأسسة الهمّ القومي الذي بدأ ينحو وجهة مبدئية مغايرة في التفكير والسلوك السياسي- غير الحزبي- للفقيه البصري. لم تخضع أزمنة المقاومة الثلاثة – التي طلبت السيرة التاريخية للفقيه وصحبه – لمنطق القطائع المجرّدة، بل حافظت على امتدادات لامرئية جسّدتها بعض الجسور الرّمزية التي قاومت بدورها إمكانية ترسيم هذه القطائع، نسوق مثالا على ذلك، إذ بالرغم من كون الزمن الأول قد خضع في منطق تشكّله الذاتي التاريخي لسياق وطني، إلاّ أنه قد تمّ في إطار دينامية علاقة انفتاحية متعددة مع حركات استقلال وطني في الجزائر ومصر...، وهو أمر يعني من جملة ما يعنيه هيمنة نمط من الجدل بين الوطني والقومي- بل والطبقي أحيانا- إبّان معركة الاستقلال، كما نعتقد من جهة ثانية أنّ في واقعة الصّدع الجهير للفقيه - التي تكرّرت قبل رحيله- في كلّ مناسبة إعلامية وسياسية غداة انتقال المُلك إلى محمد السادس- بمقترح سياسي يطالب القصر بتوثيق عرى الرباط مع جيل الحركة الوطنية كما حصل إبّان معركة الاستقلال- أي المطالبة بثورة جديدة على شاكلة 20 غشت من أجل ضمان انتقال ديمقراطي سليم من الناحية السياسية والتاريخية- ما يحيل على محاولة استعادة رمزية جديدة لصيغة تحالف من نمط سياسي محدّد مع القصر ضدّ معوّقات الانتقال الديمقراطي الفعلي. برحيله، يكون الرجل قد حمل معه- إلى مثواه الأخير- إضاءاته التي كان من المفترض أن يسلّطها على مناطق معتّمة ومسكونة بمساحات الظلّ وأحزمة البياض التي تخلّلت تطوّر مسيرة الحركة الوطنية. بفقدانه أنه أيضا تكون القضايا القومية الكبرى والإطارات المعبرة عنها- قد خسرت فيه أحد شيوخها الكبار، وعلى الرّغم من الجدال والنقاش الصاخب الذي لم يَخْلُ من انحطاط وعهر سياسي المثار حول السيرة التاريخية للراحل البصري (حركيته المزدوجة سواء في قلب وقائع وأحداث وصور الزمن السياسي المغربي وداخل عواصفه من جهة، وعلاقته المتعدّدة بالمحيط القومي الشعبي والرّسمي من جهة ثانية) إلاّ أنّه ظلّ حلقة مركزية داخل أزمنة المقاومة الثلاثة، مثلما ارتفع إلى خانة المؤسّسين التاريخيين لثقافة انتصار «القلب» على السيف، ومتون المبدأ والمثال على تبدّلات النخب وانقلابات الخطاب المدوّية.