لا شيء أوحى، لحظة ولادة محمد أمين، في سنة يوليوز 1997، بأنه يعاني من مرض معين. ولا شيء دل الأطباء الذين تناوبوا على الإشراف على فحصهم في سنواته الثلاث الأولى على نوعية المرض الذي يعاني منه، وإنْ كان أحد الجراحين قد خلُص مبكرا إلى أن «محمد أمين ليس طفلا عاديا». يتذكر إبراهيم مادو، أب محمد أمين، وهو في الآن ذاته، الكاتب العام ل«جمعية أمل التغلب على أمراض الليزوزوم بالمغرب»، كيف وجد نفسه مضطرا إلى إجراء عملية جراحية لابنه قبل أن يكمل عامه الأول من أجل معالجة فتق ظهر في بطنه. كان ذلك في شهر أبريل من سنة 1998، وتم إجراء العملية في المركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا في الرباط. وفي الوقت الذي كان إبراهيم يعتقد أن تلك العملية الجراحية ستضع حدا لمعاناة فلذة كبده، عاود الفتق محمد أمين، من جديد، قبل أن يكمل العام دورته. برمجت عملية ثانية في دجنبر من السنة سالفة الذكر في مصحة خاصة، وأكد الخلاصةَ ذاتَها الطبيبُ الجراح مرة ثانية: «الطفل ليس عاديا». وهكذا، أحيل محمد أمين على طبيب أطفال وتم إخضاعه لفحوصات كثيرة، لكنها جاءت جميعها سلبية ولم تظهر أي أثر للمرض. بعد مدة وجيزة، عاودت آلام الفتق الطفل من جديد، وتقرر إخضاعه لعملية ثالثة. غير أن مشكلا جديدا ظهر وأصبح يعيق خضوعه لمثل هذه العمليات: أصبح محمد أمين معرضا لخطر الاختناق في جناح العمليات، وهو ما فرض إخضاعه لبرنامج خاص من التطبيب ليكون مؤهلا لتحمل هذه العملية. أثار عدم تكلل العملية الثانية بالنجاح شكوك الطبيب الجراح، وقرر تتبع الحالة بنفسه، إلى حين شفائها التام، فقد «كان يعرف أن محمد أمين يعاني من مرض ما، لكنه لم يكن يعلم طبيعته»، يقول أب محمد أمين. ورغم كل المجهودات التي بُذِلت من أجل تفادي أي خطأ، مهْما كان بسيطا، يمكن أن يحول دون نجاح العملية، فقد عاودت آلام الفتق الطفل للمرة الرابعة.. حينها، اتخذ الطبيب المعالج قرارا حاسما بعدم إخضاع محمد أمين لأي تدخل جراحي وأوصى، بدل ذلك، باستعمال حزام طبي خاص بالحد من انتفاخ البطن وتسكين آلام الفتق. بعد ذلك، ستبرز لدى الطفل محمد أمين مشكلة مرضية جديدة في الرأس هذه المرة. أخضعه طبيب اختصاصي في مدينة سلا لسلسلة فحوصات أثبتت، في نهاية المطاف، أن الطفل ليس عاديا، ولكن الطبيب لم يستطع تحديد نوعية المرض الذي يعاني منه، وإن كان الفحص بالرنين المغناطيسي قد جعل الأطباء يطرحون فرضية إصابته بأمراض ذات علاقة بالتخلف الذهني، لكنهم لم يستطيعوا الجزم بهذا الأمر. ظل إبراهيم على هذه الحال: يجهل كليا نوعية المرض الذي يعاني منه ابنه، عدا فرضيات لا أحد يستطيع القطع بصحتها. داوم الطفل على تناول أدوية مُسكِّنة في الوقت الذي ازداد بطنه انتفاخا، مع تسجيل صعوبات في المشي ومعاناة من حالات اختناق. وفي هذا السياق، يؤكد إبراهيم مادو، ومعه كثير من المسؤولين في الجمعيات التي تعنى بالأمراض النادرة في المغرب، أن العجز عن تشخيص هذه النوعية من الأمراض يبقى أحد العراقيل الأساسية التي تحُول دون مواجهتها. وتنطبق هذه القاعدة على مجموع الأمراض النادرة، التي تسمى أيضا «اليتيمة»، لقلة اهتمام البحث العلمي في المغرب بها، مع العلم أن التشخيص المُبكّر يكون عاملا حاسما في ربح معركة مناهضة هذه الأمراض بدل إنهاك أجسام الأطفال بتدخلات جراحية وأدوية لا تُجدي نفعا أمام الغموض الذي يكتنف هذه الأمراض، وهو مصدر استعصائها على العلاج. في سنة 2004، ستشهد متابعة الحالة الصحية لمحمد أمين منعطفا حاسما بعد عرضه على طبيب مختص في أمراض الرأس في الرباط. وضع هذا الأخير جميع الوثائق التي يتكون منها الملف الطبي لمحمد أمين جانبا وأخذ عيِّنة من دمه، تم إرسالها إلى فرنسا لتعذر تحليلها في المغرب، وجاءت نتيجتها إيجابية: محمد أمين مصاب بمرض نادر من فصيلة أمراض «الليزوزوم»، يدعى «أورلير»، وهو أكثر الأمراض انتشارا من هذه الفصيلة كلها، إضافة إلى «كوشي» و«فابري».. وهكذا، اضطر إبراهيم إلى الانتظار 7 سنوات كاملة ليكتشف، أخيرا، أن ابنه محمد أمين مصاب بمرض وراثي نادر يؤدي إلى تشوهات في الأطراف وإلى إعاقة مستديمة وسقوط الأسنان وعمى العينين.. ولا تفلح الأدوية في إطالة أمد التعايش معه. أما أعراضه فغالبا ما يتأخر بروزها إلى غاية انصرام السنتين الأوليين من عمر الطفل، وتتمثل، أساسا، في تأخر المشي وانتفاخ البطن وكِبَر حجم الرأس. في تلك السنة، كانت المختبرات العالمية على وشك وضع اللمسات الأخيرة على الصيغة الأولية لدواء تم تطويره خصيصا لمعالجة هذا المرض. في السنة الموالية، أي في 2005، خرج رسميا إلى الوجود أول دواء. غير أن دائرة تسويقه كانت محصورة في الدول الغربية ولم يكن متاحا الحصول عليه من الصيدليات المغربية. وعلى هذا الأساس، بادر إبراهيم إلى ربط الاتصال بالجمعية الفرنسية للقضاء على أمراض الليزوزوم، ثم اخرط فيها رسميا مقابل رسوم لم تتعدد وقتها 20 أورو، وأصبح يتوصل شهريا بمذكرة إخبارية تحيطه علما بآخر مستجدات البحث العلمي بخصوص المرض الذي يعاني منه محمد أمين. ظل إبراهيم على اتصال مع الجمعية الفرنسية إلى غاية سنة 2008، حيث نُصِح بالتوجه إلى مدينة ليون الفرنسية من أجل علاج ابنه على اعتبار أنه يوجد في هذه المدينة مستشفى يتضمن قسما خاصا بأمراض «الليزوزوم». وما يزال إبراهيم في تواصل مستمر مع الجمعية، حتى إنه حضر أنشطة تنظمها هذه الهيئة المدنية خصيصا لأهالي المرضى. قبل أقل من سنة، صار بإمكان محمد أمين تناول الدواء الخاص بهذا المرض. ثمن الدواء مرتفع للغاية، إذ لا يقل -حسب إبراهيم مادو- عن مليون سنتيم لقنينة صغيرة تُستهلَك في اليوم الواحد، وهو ما يعني أن هذا الدواء «يمتص» شهريا ميزانية تصل إلى 30 مليون سنتيم!.. عبء مالي ثقيل لا طاقة للأسر الفقيرة على تحمله. في الوقت الراهن، يتداوى بعض المصابين المغاربة بهذا المرض بفضل تمتعهم بالتغطية الصحية باسم التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية، ومريض آخر تتكفَّل به جهة معينة ومريضان يُتوقَّع أن يتكفل بهما مختبر «جون زايم»، الذي يصنع دواء هذا المرض. وتطالب جمعية أمل للتغلب على أمراض الليزوزوم بالمغرب وزارة الصحة بإدراج هذا المرض ضمن قائمة «الأمراض طويلة الأمد»، التي تؤدي إلى إعاقات مستديمة، وبأن يتم التكفل بمرضاها من قبل الدولة، سواء من خلال المستشفيات أو التعاضديات، خصوصا أن فحوصات تشخيص هذا المرض غير متاحة في المغرب. أكثر من ذلك، لا يضمن هذا الدواء شفاء كاملا من مرض أورلير، وإنما يُلزَم المريض بتناوله مدى الحياة، علما أن دائرة تدخله لا تشمل الرأس، وهو ما يسمح ببروز مضاعفات خطيرة مع مرور السنوات على هذا الجزء من الجسم. وعموما، يقدر الكاتب العام لجمعية أمل للتغلب على أمراض الليزوزوم بالمغرب أمد حياة المصابين بهذا المرض في بلادنا بنحو 20 سنة، في حين ترتفع هذه المدة في فرنسا، على سبيل المثال، إلى 25 سنة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ثمة أمراضا أخرى من الفصيلة ذاتها، من قبيل «فابري»، يمكن أن يتجاوز أمد حياة المريض بها 40 سنة، لكن البحث العلمي لم يتوصل، حتى الساعة، إلى دواء يقضي على هذا الدواء بشكل نهائي.