«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. في تلك الليلة، وفيما كان بعضنا يتناول اللحم المشوي، روى لين ما حدث مرة أخرى مع ذلك المعتقل، لكن روايته أثارت غضب أحمد الحلبي الذي قال: «لماذا ترد بهذه الطريقة يا لين؟» رد لين وهو يشرب رشفة من علبة البيرة في يده: «عن ماذا تتحدث يا أحمد؟» قال له أحمد: «أعني لماذا تتصرف بهذه الطريقة مع هذا الشاب؟ لماذا لم تساعده وتمض في سبيلك؟» رد لين بغضب: «لماذا تشعر بالحزن على هؤلاء الأوغاد يا أحمد؟»، رد أحمد «لست بالضرورة أشعر بالحزن عليهم، لكنني أعتقد أن علينا أن نعاملهم باحترام، لم يحاكم أي منهم على أي شيء بعد، لا تنس ذلك؟» هنا صرخ لين: «محاكمات.. علينا أن نأخذهم جميعاً في سفينة ونضع مرساة في رجل كل منهم ونلقي بهم في قاع المحيط، ذلك يحل المشكلة ونستطيع أن نغادر جميعاً هذا المكان»، فمشى أحمد مبتعداً والاشمئزاز واضح على وجهه، خاصة أنه سمع كثيرا تلك العبارات من لين قبل ذلك، والتي كان يرددها مرارا وتكرارا. انتشرت بين الجموع من المحققين والعاملين في المعتقل الأقاويل والشائعات التي تمس الكابتن منصور وتتهمه بالانحياز والتواطؤ مع أمثاله المسلمين (بسبب اختياره لأحمد الحلبي المسلم للمشاركة في المهمة الجديدة القاضية بالذهاب إلى أفغانستان ومرافقة المعتقلين الجدد وإحضارهم إلى غوانتانامو)، فقرر الكابتن منصور أخيراً أن يرد على الأقاويل، التي كانت تتردد حول اختياره أحمد الحلبي لمهمة نقل المعتقلين من أفغانستان. ودعا إلى اجتماع ليلة رأس السنة الساعة الثامنة مساء، كانت تلك الليلة خاصة بالنسبة لجميع الذين كانوا يشربون الكحول في الفريق، وذلك يعني الجميع ما عدا مجموعة المسلمين الملتزمين. اعتقد معظمنا أن الكابتن منصور دعانا إلى اجتماع تلك الليلة متعمداً ليمنع «الكفار» بيننا من شرب الكحول. ولكن في الساعة 8.15، لم يكن الكابتن منصور قد حضر بعد. بقينا حتى الساعة التاسعة وبعدها بدأنا بالشراب، أخيراً وصل الكابتن منصور ولم يقدم أي أعذار بسبب هذا التأخير، قال: «دعوت إلى هذا الاجتماع لأوضح بعض القضايا التي سمعت بعض أعضاء الفريق يتحدثون عنها، أولاً، بالنسبة لمهمة الجسر الجوي، قررت أن أرسل أحمد كمترجم عربي (في إشارة إلى أحمد الحلبي) والرقيب تسلر كمترجم للبشتون. لقد تم اتخاذ القرار وهو نهائي»، كان الكابتن منصور يدافع عن موقفه، وجعل ذلك الاجتماع يطول أكثر (كان يهدف من إطالة الاجتماع امتصاص غضب البعض الذي عارض الفكرة خوفا من وقوع الصدامات بعد خروجهم). أدركت غاية الكابتن منصور، لكنني كنت أعي جيدا، من خلال تجربتي العسكرية السابقة، ماذا يحصل في مثل هذه الأجواء، فالذي يحصل هو أن ينهي القائد النقاش فورا دون أن يسمح بالاحتجاج على شيء ويقول عبارته الشهيرة: الاجتماع انتهى، ذلك الرد كان عموماً منتشراً في أوساط الجيش ولكن الكابتن منصور لم يفعل ذلك. وحتى أخرج من ذلك الجو الكئيب، هممت بالخروج عائدا إلى البيت محاولا الاتصال بعائلتي وصديقتي. كانت الساعة تشير حينها إلى التاسعة مساء وبقيت أحاول الاتصال حتى منتصف الليل دون أن أتمكن من ذلك، وقبل أن أضع سماعة الهاتف بلحظات، سمعت رنين الهاتف وقلت حينها يا إلهي سأتحدث مع عائلتي، وفعلا تحدثت معهم، لكنني لم أتمكن من قول الكثير لهم من هاتف المعسكر، الذي كان يكلفنا 53 سنتاً لكل دقيقة نتحدث فيها مع الولاياتالمتحدة. حاولت من خلال تلك المكالمة أن أخرج من الضغط النفسي، الذي كنت فيه، حاولت مرة أخرى أن أكلم صديقتي، لكن ذلك لم يحدث، كنت أريد أن أقول لها بأنني عندما تطوعت في الجيش لهذه المهمة كنت أتصور بأن يكون غيتمو منشأة تدار بذكاء وتحتوي على أفضل عناصر الاستخبارات الذين يحصلون على المعلومات من أسوأ الإرهابيين الذين قبضنا عليهم، حتى نتمكن من القبض على الآخرين، الذين قد يكونون أسوأ منهم لنحافظ على أمن أمريكا. وشكرت الله على أنني لم أتحدث إليها، لأنني لو قلت لها ذلك فإنني سأكذب عليها، لأن الصورة هنا لم تكن متجانسة كما كانت في خيالي قبل وصولي، فالصورة كانت تعكس إشارات واضحة تشير إلى أن هناك شيئاً ما لا يسير بالشكل الصحيح. فالتقارير عن الجوائز التي تدفع لمن يقبض على إرهابيين، ووجود بعض المعتقلين الذين لا يتم استجوابهم، والذين دون سن الرشد القانوني، وغير ذلك، كانت علامات أكثر بريقاً من أن يتمكن المرء من تجاهلها. فخ قانوني في ظهيرة أحد الأيام في منتصف يناير، عاد آدم من مهمة ترجمة في أحد مجمعات الزنزانات وسأل فانيسا: «هل لدينا أي معلومات جديدة حول وضع الأشخاص الذين تم إرسالهم إلى بلادهم منذ عدة أشهر؟ كان أحد المعتقلين يسألني عنهم، وأراد أن يعرف ما إذا كان هو أيضاً سيرحل قريبا، هل نعرف حتى إلى أين ذهبوا؟» أجابت فانيسا: «أعتقد أنهم عادوا إلى أفغانستان». قاطعتهما متسائلا: «عم تتحدثان؟ هل أطلقنا سراح بعض المعتقلين بهذه السرعة؟ ولماذا فعلنا ذلك؟» شرحت لي فانيسا أن أربعة رجال، اثنين منهم على الأقل في السبعينات من العمر تم إرسالهم في أكتوبر». وتابعت: «هذا يعني أصلا أنهم لم يكن واجباً أن يأتوا إلى هنا بالدرجة الأولى. لم يرفعوا سلاحاً ضدنا قط ولا نعتقد أنهم كانوا ينوون فعل ذلك»، ولتأكيد ذلك قالت فانيسا إنها تتحدث أخيراً مع بعض المحققين الذين أكدوا لها أن قائمة الأشخاص الذين كان يجب ألاَّ يتم إرسالهم إلى غيتمو نهائيا، كانت تحوي حوالي 100 اسم. لم يكن من المفترض أن يناقش المحققون ما كان يحدث في عمليات التحقيق مع أحد، لذلك إذا كانوا قد اعترفوا بهذه الحقيقة لفانيسا، فلا بد أنهم لم يعودوا يعتبرونها شيئاً جديدا يجب إخفاؤه. كانت تلك صدمة عنيفة بالنسبة لبن ومارك المتشددين تجاه المعتقلين، لكنه كان خبرا جميلا بالنسبة لي، فالاستنتاج الذي كان يوحي به بن ومارك لم يكن منطقيا (كان منطقيا بالنسبة لهما)ومفاده: إما أننا أرسلنا أو أننا سنرسل إرهابيين ليعودوا إلى التخطيط لهجمات أخرى ضدنا، أو أننا كنا حقا وعلى مدى أشهر طويلة، نحتجز أشخاصا اعتقلوا خطأ. لم أكن ساذجا، فكنت أعرف أنه في ضباب الحرب يتم اعتقال أبرياء من غير المحاربين أحيانا وفهمت حينها سبب قيام قيادتي بإرسالهم إلى غوانتانامو، ورفضهم توجيه اتهامات محددة إليهم، بغية إيقاعهم في فخ قانوني صعب، خاصة أننا كنا لا نزال نحتجز رجالا وصلوا دون شك إلى سن التقاعد. بعد سماع خبر الإفراج عن بعض المعتقلين، بدأت اشعر بفرحة داخلية تجاه ذلك، وفي غمار تلك الفرحة ناداني مو بغية الذهاب معه إلى العيادة لنترجم لمعتقل يمني كبير في السن (كنت أتمنى أن يكون من ضمن المفرج عنهم لكبر سنه) يعاني من آلام في الصدر. وفيما كان الطبيب يقوم بفحصه، قال المعتقل: إنه كان قد قرر إجراء عملية في القلب بناء على إرشادات أطبائه في وطنه قبل أن يلقى القبض عليه. كان العاملون في الرعاية الصحية يوجدون في وضع صعب عندما يتعلق الأمر بالرعاية الصحية للمعتقلين. كان بعض المعتقلين يكذبون عليهم ويتذمرون من أوضاع وحالات وهمية، لكن الطبيب صدق هذا الرجل، لأنه كان على ما يبدو قد تعرض لأزمة قلبية خفيفة في الصباح، وقال إنه سيخبر الحراس عن وضعه ويطلب نقله إلى أقرب مجمع زنزانات إلى العيادة الطبية. وكان سيقول للحراس إذا تعرض هذا المعتقل لأي آلام في الصدر، فإن عليهم أن يرسلوه فورا إلى العيادة للعناية به. وكان اليمني المسن يردد أنه بريء وأنه ليست لديه فكرة عن سبب اعتقاله ويردد قائلا: «هل أرسلني الأمريكيون هنا لأموت؟» كان قلقا من أن يموت دون أن يتمكن من وداع عائلته. عندما عدنا أنا ومو إلى مكتبنا، سألته: «لماذا تعتقد أننا نحتجز هنا رجلا قد يكون في السبعينات؟»، اقترح مو ألاَّ نقلق أنفسنا بهذه الأمور، حاولت إقناع نفسي أن الرجل كان يحاول استغلالنا، كما كان يحاول عدد من المعتقلين. كنت أعرف أنه من المحتمل أنه كان يدير منزلاً آمناً للإرهابيين أو أن يكون ناشطا في أمور أخرى لها علاقة بالقاعدة. لكن ماذا لو لم يكن الأمر كذلك؟ ماذا لو أن أحدهم أعطى معلومات مغلوطة للأمريكيين لأنه على خلاف شخصي مع هذا الرجل؟ في تلك الليلة، حاول مارك أيضاً أن يقنعني بعدم التفكير في الموضوع. فقال لي: «اسمع يا إريك، إن أي شخص لديه عقل يعرف أننا نحتجز عدداً من الأبرياء هنا. لا يمكن أن تسمح لنفسك بالتفكير بأمور كهذه وإلا فإن الوقت سيكون ثقيلا عليك». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب