«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. كان بعض المعتقلين يعانون من أوهام كثيرة، ولكن كان من المستحيل علي التفريق بين الحقيقة والخيال، فخلال الأسبوع الخامس من وجودي، كنت أترجم لأحد المعتقلين في مجمع فوكستردت، وكان يريد رؤية طبيب بسبب ظفر كان ينمو داخلياً في أحد أصابع قدمه، قلت له إنني سأقول لحارس الشرطة العسكرية ليدوّن ذلك في دفتر الملاحظات، فقال لي: «أرجو أن تتأكد أنه كتب ذلك فعلاً يا بسام، لأن ذلك الحارس وعدني مرارا وتكرارا بذلك لكنه لم يفعل شيئا إلى حد الآن»، كانت تظهر على المعتقل علامات تدل على أنه صادق في كلامه وأنه فعلا أخبر الحارس مرات ومرات. فكلمات هذا المعتقل جعلتني أدخل في حيرة وأتساءل لماذا يا ترى يرفض الحراس تنفيذ طلبات المعتقلين؟؟ وقبل أن أهم بالخروج متوجها إلى عنصر الشرطة العسكرية قلت للمعتقل: لا مشكلة سأحاول أن أنفذ طلبك هذا. توجهت إلى عنصر الشرطة العسكرية لأقول له ذلك عندما استرعى معتقل آخر انتباهي. قلت له: «ما بك ؟»، كان أبيض البشرة وشعره مائل للون الأحمر، واتضح أنه شيشاني قال لي: «هل تعرف ماذا حل بحقيبة يدي؟» لم تكن لدي أي فكرة عما يتحدث واعتقدت أنني ربما لم أفهم لغته العربية جيدا. سألته بحيرة: «ماذا؟» فأجاب: «حقيبة يدي، هل تعرف أين هي؟» في هذه المرة كنت واثقاً أنني فهمت، لكنني سألته، «هل تسألني عن حقيبة يد؟؟» قال: «نعم أنت تعرف وضعي بالتأكيد والحقيبة التي كانت بحوزتي عندما وصلت»، صدمتني إجابته وتأكيده بأنني على علم بالأمر، رغم أنني لم أكن أعرف شيئا عن تلك الحقيبة اليدوية خاصته، قلت له: «في الواقع لا أعرف عم تتحدث ولم أسمع قط عن حقيبة يدك». حقيقة الحقيبة السوداء تنهد المعتقل وبدا عليه الغضب. قبل أن يردف قائلا: «عندما اعتقلت في الشيشان كنت أحمل حقيبة سوداء مليئة بالأموال النقدية. وعندما وصلت إلى هنا أكد لي المحقق أنه سوف يسأل لي عنها ويخبرني بما حل بحقيبتي وماذا سيحصل للنقود، لكن بعد أسبوعين التقيت محققاً آخر، وقال لي إنه لا يعرف شيئاً عن الحقيبة، ومضت أشهر وأنا أحاول معرفة مكان الحقيبة التي لم أعرف مكانها إلى حد الآن، رغم أنني حاولت إقناع المحققين بالسؤال عنها، والذين قالوا لي إنهم سيعلموني بما حل بحقيبتي، لم أسمع منهم شيئاً على مدى ستة أسابيع، وبعد ذلك، عندما ذهبت إلى التحقيق، قال المحقق الجديد طبعاً إنه لا يعرف شيئاً عن الحقيبة، لقد ناقشت هذا أيضاً مع الفتاة الشقراء، وقالت لي هي أيضاً إنها سوف تستفسر عن الأمر». شعرت برغبة قوية بالضحك وأنا أستمع إليه، لكنني كنت أعرف أنني يجب ألا أفعل ذلك، خاصة وأن مظاهر النقمة والغضب كانت ظاهرة عليه بعد أن قال لي: «أعرف أن أولئك الكلاب الأمريكيين ينفقون مالي كله، أريد فقط أن أعرف إذا كنت سأسترجع بعضه أو أرسله إلى أسرتي». قلت له: «عليّ فعلاً أن أستفسر عن الأمر. ولكي أكون صادقا معك فأنا لست مهماً كثيراً هنا، وأشك أن يعطيني أحد الإجابة». حينها قال بلطف: «إنني أقدر لك إذا سألت فقط»، قلت له: «ما في مشكلة، سأخبرك إذا توصلت إلى معرفة أي شيء عن هذا الأمر». عندما عدت إلى المكتب، كانت فانيسا ومو يقرآن المجلات، أغلقت الباب وقلت: «هل يعرف أي منكما شيئاً عن الرجل الذي يسأل عن حقيبة يد مليئة بالنقود؟ نظرا إلى بعضهما البعض وضحكا. وفهمت بأن ذلك الرجل كان يقول نفس الشيء لكل مترجم يمر قرب زنزانته. كان بعض زملائي قد بدؤوا يشكون في مدى نجاح مهمة المعسكر بسبب قصص مثل تلك التي أخبرني إياها عزيز. كانوا مقتنعين أن عدداً قليلاً من المعتقلين فقط كانت لهم قيمة استخباراتية حقيقية، وكانت لديهم شكوك حول ما إذا كان عدد كبير من المعتقلين مذنبين فعلاً. كان عدد المعتقلين الذين بالكاد يبدو عليهم أنهم إرهابيون يقلقني كثيراً. علمت أننا نحتجز في غوانتانامو مجموعة من المراهقين الأفغان الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاماً، وكانوا موجودين في مبنى منفصل اسمه معسكر إيغوانا. كان أولئك المراهقون يتمتعون بقدر أكبر من الحرية من المعتقلين الآخرين، وكانوا يتلقون دروساً في بعض المواد، لكنهم كانوا سجناء المبنى الذي هم فيه، وكنت أتساءل عن جدوى احتجازهم في مكان مثل غيتمو، خاصة أنني لم أجد أحدا يتفهم هذه الأمور التي كنت أريد مناقشتها بين المحققين، حتى المحققين المسلمين لم يكونوا يبالون بما يحصل هناك، رغم أنهم كانوا في غالبية الأحيان يواسون أحزانهم مع بعضهم البعض. حينها فقط فكرت في المزيج الغريب من الأعراق والأديان داخل مجموعتنا، التي تضم بالإضافة إلى المسلمين اليهود الروس (أيلينا الروسية اليهودية الملحدة) ولينا (اللبنانية الأمريكية المسلمة، وبوبس (اللبناني المسيحي الملتزم) ومارك ومو ذوو الأصول المصرية. الانتقام من صدام حسين المسلم لكن ما أثار استغرابي كثيرا هو بن ذو الأصول الكلدانية المسيحية العراقية، ذلك الجندي الاحتياطي القادم من كاليفورنيا. فقد كان هذا الرجل يتمنى دائما أن يرأس فريق المحققين ليثأر وينتقم من المعتقلين المسلمين ويقوم بتعذيبهم، تحت ذريعة أن عائلته عانت الكثير على يد نظام صدام حسين المسلم، وأنه يريد أن يرد شيئا بسيطا من تلك المعاملة التي انتهجت ضد أسرته. بدأت الأمور تهدأ قليلا وبشكل تدريجي، شعرنا خلالها ببعض الراحة النفسية والجسدية. لكن ذلك الهدوء لم يدم طويلا، ففي فترة عيد الميلاد قال مو: إنه سمع من الكابتن منصور أن هناك احتمالات ببدء رحلات جوية لنقل بعض الإرهابيين المعتقلين في أفغانستان إلى غوانتانامو، وكانت تلك الرحلات تتطلب أن يذهب بعضنا على متنها، حسب اللغة التي كان المعتقلون يتحدثونها، وكانت هناك رحلة محددة تطلبت مترجماً عربياً ومترجماً بلغة البشتون، كان الجميع يرغب بالذهاب في تلك المهمة لرؤية الصورة في منطقة القتال. كان مو قد سمع الكثير عن تلك الرحلات التي اعتبرها بأنها مرهقة جداً، قال لي: «كل شيء في المهمة يقصد منه إخافة المعتقلين، حتى المترجمون من المفترض أن يعاملوا المعتقلين باحتقار شديد ويخيفوهم إلى أقصى حد». قبل وصولي بفترة بسيطة، كان أحد المترجمين العاملين في القوى الجوية قد تمكن من التقاط صور لإحدى هذه الرحلات، وتمكن من إرسال صور إلى محطات التلفزيون تبين المعتقلين المقيدين وهم يرتدون عصابات سوداء على أعينهم وسماعات على آذانهم وكمامات من الورق على أفواههم، ويضعون أكياساً على رؤوسهم ويتم تقييدهم بأرض طائرة سي - 130 بأربطة سوداء على مدى أكثر من 20 ساعة التي تستغرقها الرحلة. كان بعضهم يعتقدون أنهم ذاهبون إلى موتهم، كان الحراس يصرخون عليهم دائماً خلال الرحلة. وعندما وصلوا إلى كوبا، تم إلقاؤهم مباشرة في غرف التحقيق، وكانت جلسات التحقيق تمتد إلى يومين أحياناً بشكل متواصل. فمثل تلك الممارسات، حسب ما يروي مو، تنتج معلومات أكثر مما ينتجه شهران من التحقيق فيما بعد هنا في غوانتانامو. ثورة الغضب هنا وقع الاختيار على أحمد الحلبي باعتباره المترجم الوحيد الذي يجيد اللغة العربية، إلى جانب إجادته (إجادة مقبولة) للغة البشتون، ولعل سبب اختياره هنا من طرف الكابتن منصور هو أن الحلبي كان قد قال علنا في أكثر من مناسبة بأنه يريد الابتعاد عن الاحتكاك بالمعتقلين، لأنه كان يجد نفسه يتعاطف معهم كثيراً، وإذا كان تخويف المعتقلين أحد الأهداف، فقد اختار الكابتن منصور الشخص الخطأ للمهمة، لكن أحمد كان يريد الذهاب على ما يبدو كنوع من الفضول، ليرى كيف كانت تسير الأمور، الشيء الذي سبب تذمرا للعديد من المترجمين غير المسلمين من الكابتن منصور بسبب اختياره وتفضيله للحلبي على غيره للمشاركة في هذه المهمة، خاصة المترجم لين، الذي كان قد أبعده الكابتن منصور من مهامه ومنعه من الاحتكاك والاتصال بالمعتقلين، نظرا إلى تصرفاته السيئة تجاههم والتي تنم دائما عن الحقد والكراهية وتوقع العديد من المشاكل والاضطرابات داخل الزنازين مجتمعة. فقد كان لين قد عاد إلى المكتب غاضباً بعد أن نفذ إحدى مهمات الترجمة، وكان حينها بالكاد يستطيع رواية ما حدث من خلال ثورة الغضب: «أكره هؤلاء الإرهابيين»، قال إنه تحدث إلى معتقل كان منزعجاً لأنه لم يحصل على دوائه ذلك اليوم وبصق عليه لرفضه المساعدة، الشيء الذي أثار لين ودعا الحراس إلى ضرب المعتقل وإهانته بشتى الوسائل والطرق البشعة (صعقه بالكهرباء ورشه مرارا وتكرارا بالماء بعد ذلك). كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب