«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. خلال الشهر الأول لوجودي في غيتمو، كانت تراودني مشاعر مختلفة لحب وكراهية ما كنت أقوم به، فمن ناحية كنت أكتسب الكثير من الخبرة الجيدة التي قد أستفيد منها في مهمات استخباراتية قادمة، ومن ناحية أخرى وجدت أن فهمي للإسلام والثقافة العربية كان يتعمق كلما سمعت قصصاً أكثر عن قصص المعتقلين. فبعض اللغويين كانوا نادراً ما يتحدثون إلى المعتقلين، وكان اثنان أو ثلاثة منهم يظهرون احتقاراً مباشراً لهم، لكن معظمنا كان يدخل في أحاديث معهم بشكل منتظم تقريباً.، كنت أشعر أن محاولة الابتعاد عن المعتقلين لم يكن لها معنى لا على المستوى الشخصي ولا بالنسبة للمصلحة العملية كلها، وكانت أحاديثي مع المعتقلين وسماع وجهات نظرهم عن الأمريكيين وعن الإسلام تجعلني أعي أكثر وأكثر إلى أي مدى هناك سوء فهم بيننا. تحطيم إرادة الحياة ففي مكتب المترجمين، كنا نتحدث كثيراً عن المعتقلين وعن فهمهم للدين، وكنا نناقش فيما إذا كانوا تعرضوا لغسيل دماغ أم إنهم كانوا معتقلين بمفهومهم للدين لدرجة كبيرة. كان الاعتقاد السائد بيننا أن ذلك كان يعتمد على كل معتقل بعينه، بعضهم كانوا مضللين، والبعض الآخر كانوا متحمسين فقط، وبدا أن بعضهم فقد الإيمان تماماً، خاصة أولئك الذين كانوا يحاولون الانتحار غالباً. كنت قد بدأت أتساءل فيما إذا كانت حربنا على الإرهاب تعطي مفعولاً عكسياً، فقد لاحظت أن معسكر «دلتا» كان يحطم إرادة بعض المعتقلين، بما في ذلك إرادة الحياة، لكنني لاحظت أيضاً أنه كان يقوي إرادة البعض الآخر وتلاحمهم ضدنا وضد ما يعتبرونه الاضطهاد الأمريكي، لدرجة أن الشكوك أخذت تراودني حول مدى نجاحنا في عزل الأشرار الحقيقيين من غيرهم. كانت هناك قصص كثيرة يرويها المعتقلون حول كيفية وصولهم إلى غوانتانامو، حيث وجدت مع كل قصة سمعتها أن الأمر كان يزداد صعوبة لقبول سياسة عدم توجيه الاتهامات إليهم بشكل رسمي، بحجة أن ذلك ضروري في الحرب على الإرهاب، فقد كان من الأسهل كثيراً تبرير سياسة ما عندما لا يكون عليك رؤية أولئك المعتقلين عن قرب وتسمع قصصهم وقصص عائلاتهم وخلفياتهم. كان عزيز معتقلاً سعودياً اعتقلته قوات تحالف الشمال في أفغانستان، كان رجلاً قصير القامة وممتلئاً، وكانت لحيته مليئة بالشيب وشعره خشن أشعث، وكان يبدو في الأربعينات من عمره، مرحاً ويدفعنا إلى الضحك يومياً تقريباً، كان يروي لي النكات باللغة العربية المحلية التي لم أكن أفهمها جيداً، وكان يخبرني عن مدى انزعاجه من ارتداء النساء البرقع في أفغانستان. كان يقول إنه كان يتمنى لو أنه عاش في أمريكا حتى يستطيع رؤية أجساد النساء، وكان يعلق كثيراً على النساء، خاصة في فريق المترجمين وكان يقصد هنا فانيسيا، التي وصفها بأنها امرأة الأحلام. وفي يوم من الأيام، عندما ذهبت إلى زنزانته كان من الواضح أنه طلب مترجماً لمجرد الحديث. اشتكى أولاً من معاملة الحراس، وقال إنهم يتعاملون مع جميع المعتقلين بدون احترام، فقلت له إنني لا أملك أي سلطة حول ذلك، بعد ذلك بدأ يطرح عليّ بعض الأسئلة. قال: «كيف هو الجيش يا بسام؟»، قلت: «أحبه يا عزيز، أحب خدمة بلدي. الجيش علمني اللغة العربية، ويتيح لي السفر كثيراً». قال: «لماذا يؤيد بلدك إسرائيل دائماً؟» قلت: «عزيز، أنت تعرف أنني لا أستطيع الحديث عن أمور كهذه». قال: «أعرف، كنت آمل فقط أن نتناقش قليلاً»، قلت: «لا نقاش اليوم يا عزيز». مجندات للجنس فقط قال: «طيب»، وأضاف «يا بسام، لاحظت أنه لا يوجد خاتم زواج في أصبعك، هل أنت عازب؟»، فقلت: «حالياً نعم يا عزيز، ولكنني آمل ألا يطول ذلك، أخطط للزواج». سألني: «هل ذلك يعني أنك خلال وجودك هنا تستطيع أن تمارس الجنس مع أي امرأة في المعسكر؟ ضحكت وقلت: «لماذا تعتقد ذلك يا عزيز؟» قال: «اسمع يا بسام، لست غبياً، لا يمكن أن تكون النساء هنا في الزي العسكري موجودات كجنديات حقيقيات، هل تعتقد أننا أغبياء؟؟ جميع المعتقلين هنا يعرفون الحقيقة، يعرفون أنهن موجودات هنا لخدمة الجنود الحقيقيين». لم أصدق ما كنت أسمعه. قلت: «لا يا عزيز، النساء اللاتي في المعسكر جنديات مثلنا»، ضحك عزيز بصوت عال وقال: «بسام. أتمنى أن يدور بيننا نقاش صريح يوماً ما وتتوقف عن قول الأكاذيب لي، هل تتوقع مني بالفعل أن أصدق أن الفتاة ذات الشعر الأشقر الطويل والصدر الكبير هي في الواقع جندية؟؟ قلت: «إنها كذلك يا عزيز وهي جيدة في عملها أيضاً» كان عليّ أن أنسحب من ذلك الحديث فبدأت أمشي مبتعداً، لكن عزيز رأى الابتسامة على وجهي فقال بصوت عال: «تعرف أنني على حق». ولكن عندما لا يكون عزيز يمزح ويضحك مع المعتقلين الآخرين، كان يجلس في زاوية زنزانته وهو يبكي. مثل وائل، كان يدعي أن قوات تحالف الشمال قبضت عليه لمجرد كونه عربياً في أفغانستان. قال: «إنه كان يفتقد أحفاده». كان يقول متوسلاً أحياناً: «لا أريد أن أموت في السجن». قال لي: «إنه كان يحب أمريكا في السابق». والحقيقة أن بعض المعتقلين لم تكن لهم علاقة بالإرهاب، وأن وجودهم في غوانتانامو لا معنى له، كانت واضحة لأي شخص يزور مجمع زنزانات «دلتا» (تلك الحقيقة ستكون واضحة أكثر عندما تسمع قصة كل معتقل، عندها فقط تستطيع أن تعرف من المتهم ومن البريء). في أحد الأيام، جاء استدعاء لمترجم في مجمع دلتا في فترة الغداء تقريباً. لم يكن أحد يريد أن يذهب خوفاً من أن يتأخر على السيارة التي تنقلنا إلى السكن في نهاية الدوام، لكنني تطوعت لأنني كنت ما أزال أرغب في إعطاء انطباع جيد عني ولأنني لم أكن قد ذهبت إلى ذلك المجمع من قبل، دخلت المجمع وتوجهت مباشرة إلى زنزانة المعتقل صاحب الشكوى، قال لي: «المسؤول عن المكتبة يكرهني ويتجاوزني عمداً عندما يسلم الكتب». فكرت في أن ذلك غير محتمل، لكنني قلت له إنني سأنظر في الأمر وأعود إليه. وفيما بدأت أمشي مبتعداً، صاح معتقل آخر «يا مترجم، يا مترجم». وبعد ذلك قال بالإنجليزية: «أريد أن أخبرك شيئاً». وفكرت لماذا لا أرى ما يريده هذا الرجل؟؟ عندما اقتربت منه، قال باللغة العربية: «أعرف القليل من الإنجليزية، أريدك أن تقول لي إذا كانت جيدة»، قلت «دعني أسمعك»، عند ذلك وقف هذا المعتقل وراء شبك فولاذي أخضر، ونظر إليّ في عيني وبدأ يغني بطريقة الراب بالإنجليزية: «أحب الصدور الكبيرة ولا أستطيع الكذب، أنتم أيها الإخوة لا تستطيعون أن تنكروا أنه عندما تسير فتاة بوسط يتمايل». كان المعتقل يغني بلكنة ممتازة وأنغام موزونة، وأكمل تلك الأغنية الكلاسيكية التي كانت معروفة في الثمانينات. لم أعرف ما إذا كان عليّ أن أضحك أم أبكي. هؤلاء الشبان كانت توجهاتهم مختلفة بالتأكيد، فقد لاحظت مع مرور الوقت أن بعض الرجال في مجمع زنزانات دلتا كانوا بالفعل مختلين عقلياً. سمعت أن أحد المعتقلين في مجمع دلتا كان يأكل برازه، وأنه أطلق سراحه قبل حضوري إلى غيتمو. هل كان هؤلاء الرجال مختلين عقلياً قبل وصولهم إلى غوانتانامو، وكانوا فريسة سهلة لزعماء الحرب الباحثين عن الجوائز في أفغانستان؟؟ أم إن ما واجهوه في هذا المعسكر والنهاية المفتوحة لاعتقالهم دفعتهم إلى الجنون؟؟؟