ينكب مجموعة من خبراء فريق الأغلبية الحكومية على إعداد البرنامج الحكومي للتحالف وعرضه على البرلمان من أجل المصادقة عليه حتى تصبح الحكومة منصبة بشكل دستوري نهائي بعيدا عن التأويلات الفقهية الكثيرة التي ميزت بين التسمية والتنصيب. الرأي العام الوطني يترقب، بشكل كبير، الجديد الذي ستحمله الحكومة المقبلة وما إذا كانت لها الجرأة الكافية لاتخاذ مجموعة من القرارات الاستراتيجية الفاصلة بين مغرب الأمس ومغرب اليوم. بالمقابل، دشن فريق العدالة والتنمية مجموعة من الإشارات الرمزية الهادفة إلى تخليق تدبير الشأن العام، منها الاستغناء عن سيارات الدولة وعدم استعمالها إلا في المناسبات الرسمية والجهر بالحقائق وسياسة القرب من المواطنين وإطلاعهم على الأوضاع الحقيقية للبلاد، والتفاؤل بالنكت الحامضة وشرب البيصارة في المقاهي الشعبية كتوجه نحو الاختلاط بالسكان ومعرفة همومهم ومطالبهم في أفق إيجاد الحلول الملائمة لها، والتخلي عن المساكن الوظيفية والطباخ والبستاني. لكن يبدو أن لا تأثير لهذه السلوكات على الميزانية العامة وأنها لا تسمن ولا تغني من جوع مقارنة بحجم الانتظارات والآمال التي يعلقها المغاربة على حكومة الدستور الجديد وإفرازات الربيع العربي. طبيعة المرحلة تقتضي إحداث ثورة تصحيحية في معالجة القضايا الكبرى للبلاد، وعلى رأسها اقتصاد الريع كرخص الصيد في أعالي البحار واستغلال المقالع والتضخم المفرط للأجور، خاصة المدراء العامين الذين يتقاضون أجورا تفوق بشكل كبير أجور الوزراء الذين يعملون تحت وصايتهم. ونسوق في هذا المجال، على سبيل المثال لا الحصر، رئيس الإدارة الجماعية لمجموعة التهيئة العمران، والي بنك المغرب، المدير العام لاتصالات المغرب، المدير العام للشركة الوطنية للطرق السيارة، المدير العام للخطوط الجوية الملكية، الجنرالات،... هذه الشريحة هي التي تمتص رصيدا كبيرا من ميزانية الدولة وترفل في النعيم على حساب شرائح واسعة من المستضعفين الملزمين بأداء الضرائب. ومن غرائب الأمور في هذه البلاد أن الطبقات الضعيفة والمتوسطة هي التي تؤدي الضرائب لأن الاقتطاع يكون من المنبع، أما علية القوم فشعارها التملص الضريبي، رغم الاستفادة المهولة من امتيازات الدولة كالتفويتات المشبوهة لأراضي الأملاك المخزنية بأثمنة رمزية. وتعتبر المديرية العامة لإدارة الضرائب من أكثر المرافق العمومية، التي تكون قراراتها عرضة للطعن والمخاصمة أمام المحاكم الإدارية لأنها غالبا ما تكون مشوبة بالمزاجية والانتقائية والتعسف في استعمال السلطة. هذه السياسات المتراكمة هي التي أدت إلى تفقير الشعب المغربي على مر السنين، فهل تستطيع الحكومة الملتحية التناغم من حجم الانتظارات وسقف المطالب ومعالجة جدلية الثراء الفاحش والفقر المدقع؟ بداية التخلي عن وزارة المالية والأمانة العامة للحكومة تعتبر زلة لن تغتفر لرئيس الحكومة الحالي لأنه مهما صاغ من استراتيجيات ومهما دبج من برامج فإنه لا يستطيع تطبيقها وأجرأتها على أرض الواقع لأنه يفتقر إلى الذراع المالي اللازم لذلك، وقد عودتنا التجارب في الحكومات السابقة على أن وزير المالية ليس بالضرورة مرؤوسا لرئيس الحكومة، وإنما يمكن أن يتلقى التعليمات من الدوائر العليا لفرملة تمويل أي مشروع أو إنشاء أي صندوق باسم المصلحة العليا للوطن التي أصبحت لازمة مغربية يتسع حجمها ويضيق حسب الظروف. كما أن الوزارة سابقة الذكر تعتبر علبة سوداء وإدارة معتمة دمساء تختزن في طياتها مجموعة من الأسرار المالية والتعويضات الخيالية المسكوت عنها، أما الأمانة العامة للحكومة فهي ثلاجة القوانين التي لا يمكن تمريرها إلا بعد تهذيبها وتعديلها وغربلتها بشكل يستجيب لإرادة الدولة واللوبيات الضاغطة حتى إن كانت في صيغتها الأولى هي الأصلح للمواطن. ومن المستبعد جدا أن يكون رئيس الحكومة هو الذي اقترح التقنوقراط لشغل مناصب السيادة لأن هذا الأمر لا يستوي منطقيا بالشكل الذي استوى عليه، فغداة الحملة الانتخابية الفائتة كان حزب العدالة والتنمية يصر على أن التنزيل السليم للدستور يقتضي أن جميع الوزراء يقترحهم رئيس الحكومة، وبهذا المقتضى لا وجود لشيء اسمه وزراء السيادة، وهذا الانقلاب قد تكون أملته أجندة القصر كفاعل مركزي في الحقل السياسي، الذي لا يمكنه بتاتا التفريط بسهولة في آليات الضبط والمراقبة والتوجيه والرصد للعمل الحكومي. الإكراهات التي ستواجه الحكومة الحالية صعبة للغاية ولا يمكن الاستهانة بها في ظل أزمة اقتصادية عالمية خانقة وغليان شعبي غير مسبوق نظرا إلى غلاء الأسعار وتدني الأجور وانتشار البؤس وعطالة الخريجين حاملي الشهادات العليا وانحباس الأمطار وارتفاع أسعار البترول، مما ينذر بالمزيد من المتاعب، لكن رغم ذلك فرجل السياسة يجب أن يبقى دائما متفائلا لمواجهة التحديات، وقد آن الأوان للانتقال من سياسة التردد إلى الانخراط المباشر في مواجهة الفساد والاستبداد وإجبار الذين اغتنوا على حساب الشعب المغربي وأثرياء المتاجرة بهموم الناس على جبر ضرر الوطن لأن ضريبة المواطنة تكون في المغانم والمغارم، ليس من باب الإطلاقية في الأشياء لكن لا بد من التمييز بين الثراء الفاسد والثراء الشريف. البورجوازية الوطنية هي التي تمتلك، بالإضافة إلى الأموال، مشروعا فكريا تنمويا تستطيع بفضله المساهمة في حل الأزمات وإخراج البلاد من الوضع المتردي ومنحدرات البؤس والفقر والهشاشة، والبرجوازية المتعفنة هي التي تراكم الثروات دون حسيب ولا رقيب. وفي أول احتقان اجتماعي تغادر الوطن وتهرب ثرواته المنهوبة إلى الخارج في نرجسية مفرطة حاقدة ملؤها تضخم الأنا وتدني المستوى الفكري والأخلاقي. في ظل هذه الأوضاع المتفاقمة يحتاج الأمر إلى مجموعة من القرارات الثورية لرد الاعتبار إلى الوطن والمواطنين بأقسى سرعة ممكنة: - إحداث ضريبة التضامن الوطني والاقتطاع من ثروات الأغنياء لصالح الفقراء والفئات المعوزة؛ - إصلاح منظومة الأجور وصناديق التقاعد والضمان الاجتماعي وتحديثها تجنبا للإفلاس؛ - إحداث صندوق للتعويض عن العطالة يتم تمويله من المؤسسات العمومية والجماعات المحلية وإدارة الدولة لامتصاص الأعداد المتزايدة لخريجي الجامعات؛ - الانتقال من مرحلة الحكامة إلى مستوى الذكاء الاقتصادي؛ - إصلاح منظومة التعليم بجعله قطاعا منتجا منفتحا على سوق الشغل وليس خلية لتفريخ العاطلين؛ - إعادة النظر في سياسة التدبير المفوض التي ترهق جيوب المواطنين بفواتيرها المرتفعة، خاصة شركات ريضال وأمانديس... ومراجعة دفاتر التحملات التي تربطها بالدولة بشكل واقعي وعقلاني؛ - ضبط سوق العقار وخلق التوازن بينه وبين القدرة الشرائية للمواطن والانفتاح بشكل كبير على ذوي الدخل المحدود ومنعدمي الدخل للولوج إلى السكن في ظروف سليمة بدل الاقتصار على شقق نمطية وصناديق إسمنتية تتراوح مساحتها بين 40 و60 مترا مربعا، وهي بذلك لا تحترم أبسط حقوق الكرامة الإنسانية؛ - إعادة بناء الثقة بين المواطن والإدارة، وذلك بإحداث قطيعة مع النسق البيوقراطي الروتيني وتجسير التواصل بين المرتفقين والتدبير الأمثل للتظلمات والشكايات؛ - إحداث رجة سيكولوجية باتخاذ قرارات جريئة للمصالحة بين المواطن والعمل السياسي لأن مغرب اليوم لم يعد مسموحا فيه بوجود نخب سياسية فاسدة كالبعوض، متمرسة ومتخصصة في مص الدماء من جلد إلى آخر. تقييم الأداء الحكومي مرحلة سابقة لأوانها، لكن لا بد من القراءة المتأنية للإشارات والانتظارات، والكل يراهن على نجاح التجربة الحالية من أغلبية ومعارضة حفاظا على استقرار المغرب لأنه هو مستقبله الوحيد. أستاذ القانون العام كلية الحقوق/سطات