السلفية الأصولية هي دين آخر غير الدين الذي يعرفه الناس، أو هي تأسيس لدين لا علاقة له بالدين، لأنها فكر لا يعرف التموج أو الاستمرار لا وجود ل»حقيقة» واحدة في الفكر. هذا ما كان أفلاطون وقع فيه حين طرد الشعراء من مدينته «الفاضلة»، لأنه، كما قال أحد المفكرين المعاصرين، ممن طالتهم يد التكفير. «مشكلة أفلاطون أنه جعل من «الحقيقة الفلسفية» معيارا.. للحكم على الشعر، فطرد الشعراء من جمهوريته»، فهو لم يوسع من معنى الحقيقة أو من «تجلياتها المختلفة»، فهناك «الحقيقة الفلسفية» و»الحقيقة الاجتماعية» و»الحقيقة السياسية» و»الحقيقة الثقافية». هذا ما فعله هذا الفكر «النائم»، بتعبير نيتشه. أن نكتفي باختزال «الحقيقة» في ما يأتي من الدين أو من الفلسفة، فهذا يعني إقصاء غيرها من الحقائق، والاكتفاء بالرؤية المغلقة العمياء التي لا تغير نظرها إلى الأشياء. مصادرة «حقيقة» باسم «حقيقة» أخرى هي نوع من السلفية الأصولية أو هي تكريس لفكر التحريم والمنع ورفض للاختلاف والنقد. حين لجأ أفلاطون إلى أرسطوفان، وهو طريح الفراش، فلأنه لم يعد يجد ربما في زمنه من ينتقد، أو من يعيد تخيل الواقع، بنفس السخرية التي كان أرسطوفان ينتقد بها هذا الواقع، أو يعيد تشكيله، وفق منظور جديد ليس هو المنظور الذي كان الفكر اليوناني غرق فيه. فأرسطوفان، بالنسبة إلى أفلاطون، في هذا الوضع، هو «حقيقة» أخرى، كان أفلاطون نسي في لحظة سابقة أن يسبغها على الشعر، مما جعله يقع في فخ التحريم والإقصاء. كما حدث مع الشعر يحدث اليوم مع الفن، مع الرسم والنحت والرقص والتمثيل، ومع الآثار التاريخية القديمة. السلفية الأصولية لا تنظر إلى «العراء»، مثلا، إلا من زاوية الأخلاق أو من زاوية «الحقيقة» الأخلاقية، ولا تذهب إلى «الفن» باعتباره «حقيقة» أخرى، تعيد النظر في الأشياء كما تعيد النظر في «الأجسام»، لأن الفن لم يكن أخلاقا بالمعنى الديني السلفي، فهو كان دائما أخلاقا في سياق فني جمالي، يعيد ترتيب الأوضاع وفق منظور يكون فيه «العراء» نوعا من النقد لهذا «الاحتجاب» الذي صار قهرا لمعنى «الطبيعة» ولمعنى الإنسان الذي هو في حاجة إلى اختبار بدايته، أعني بداية خلقه التي كانت «عراء» في أصلها. أليس «العراء» نقدا لفداحة هذا التخفي الذي يريد الفكر الماضوي السلفي أن يفرضه علينا؟ أليست شدة «الاحتجاب» دعوة إلى «العراء»، أو هي، بالأحرى، شدة عراء؟ إن «طبيعة» الأشياء تقتضي أن يكون الفن، كما الفكر، حرا، في نظرته إلى الواقع، وأن يكون فكرا بالمعنى المعرفي الجمالي الذي تكون فيه المعرفة والجمال بين ضرورات «الاجتهاد» أو «التأويل». لا يمكن الحكم على الضوء بالظلام، وعلى الفكر أو الفن بالأخلاق أو بإجبارهما على النظر في الدين برؤية دينية غيبية. هذا إكراه لا يقبله الدين نفسه، ولا تقبله طبيعة الإنسان المتحرك المتموج الذي لا يخاف التغيير أو انقلاب المفاهيم والتصورات، بما في ذلك معنى الدين نفسه. مرآة أفلاطون هي مرآة متموجة، لأن أفلاطون لم يكن، وهو ينظر في مرآته، يكتفي بنفسه، بل كان يحتاج إلى غيره، لأنه كان في حاجة إلى فكر آخر، وإلى صوت آخر، وإلى «حقيقة» أخرى، ربما أدرك، في وقت متأخر، أن ما فعله مع الشعراء كان خطأ، فعاد إلى أرسطوفان ليعبر من خلاله عن الحاجة إلى هذا الصوت المختلف، لأننا حين نكتفي بالنظر إلى نفسنا، أو نكتفي بالاستماع إلى أفكارنا، فقط، فنحن نكون مثل أولئك الذين يظلمون الغرفة حين ينامون. كان توسد أفلاطون لأرسطوفان نوعا من الضوء الذي لجأ إليه أفلاطون، حتى لا يموت ويكون الظلام هو آخر ما يراه. الفكر الحر المنشرح هو الفكر الذي سنحتاج إليه دائما، لأن أي نوع من النسيان أو من الاطمئنان للثوابت واليقينيات سيكون تكريسا أعمى لفكر الاجترار والتكرار والاستعادة والاجتزاء والبتر. نيتشه لم يعد إلى حادثة أفلاطون مع أرسطوفان ليخبرنا بما كان يقرؤه أفلاطون حين كان طريح الفراش، بل إن نيتشه نفسه كان يعود إلى هذه الحادثة، ليوقظ في نفسه الحاجة إلى هذا النوع من الفكر الابتداعي الخلاق الذي يخرج بمعرفة الآخرين من عزلته التي قد تصير غيبا، أو فكر غيب، لأن الآخر ليس دائما جحيما، فالجحيم هو هذا الفكر الذي يتفادى النظر في الأشياء في «طبيعتها» ويعمل على تحريفها وفق منظور غيبي ماضوي، يحصر الزمن ويختزله في ماض ليس هو كل الماضي الذي جاء منه الإنسان، أو يختزله في فكر ليس هو كل الفكر، وفي دين ليس هو كل الدين. السلفية الماضوية، التي تتخذ من الدين سلاحا لمواجهة فكر الحداثة والتحرر، تعمل على تغييب الإنسان وعلى استلاب إرادته بتحويله إلى مجرد تابع، فحين تحدث نيتشه عن «القطعان البشرية» فهو كان يحرص على أن يكون الإنسان فوق هذا المعنى، مستقلا وله إرادة، ويسمو بفرديته وبفرادته عن الفكر القطيعي الذي هو قتل لمعنى الإنسان وسلب لإرادته التي هي مقدمة كل فكر حر متحرك، لا يعرف الاستقرار والثبات، ف»الاستماع إلى الجديد يحرج الأذن ويصعب عليها»، الكلام لنيتشه.