أكتب هذا المقال من مسقط التي تقع على بعد كيلومترات من مضيق هرمز، النقطة الأكثر سخونة في العالم حاليا، ومحور مواجهة عسكرية محتملة بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران. الأحداث تتلاحق بسرعة، والاحتقان يبحث عن المفجّر، أو الشرارة، مثلما ذكر أحد المسؤولين العمانيين الكبار الذي لم يخف قلقه من إمكانية تطور الحرب الكلامية والتهديدات المتصاعدة إلى مواجهات دموية، تجر المنطقة والعالم بأسره إلى كارثة. مسؤول عماني آخر ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أكد أن احتمالات الحرب باتت أكبر كثيرا من احتمالات اللاحرب، للتعاطي مع الأزمة المتفاقمة، وتنبأ بأن الخليج قد يموت عطشا في أضعف الحالات إذا ما اندلعت الحرب بفعل «خطأ ما»، أو إقدام إيران على تنفيذ تهديداتها بإغلاق المضيق الذي يمر عبره أكثر من 17 مليون برميل نفط يوميا، أي ثلث صادرات العالم. القلق له ما يبرره، فاحتمالات فرض حظر نفطي على إيران باتت شبه مؤكدة في اجتماع وزراء خارجية أوربا المقبل، في الثلث الأخير من هذا الشهر. والتهديدات الإيرانية بضرب حاملات الطائرات الأمريكية التي تتدفق إلى المنطقة يمكن أن تترجم عمليا، لأن الحظر النفطي سيكون بمثابة إعلان حرب، و»قطع الأرزاق من قطع الأعناق»، مثلما قال الرئيس العراقي صدام حسين قبل أن يرسل قواته لاجتياح الكويت بعد تجويع العراقيين من خلال سرقة نفطهم، وإغراق الأسواق بكميات إضافية منه، والتي أدت إلى هبوط أسعاره إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل. إيران تعرف جيدا أنها لا تستطيع مضاهاة الولاياتالمتحدةالأمريكية عسكريا، ولكنها تستطيع الرد على محاولات خنقها وإذلالها، من خلال سلاحها الأقوى وهو ضرب الاقتصاد الغربي في مقتله، أي إغلاق مضيق هرمز، أو تهديد تدفق النفط عبره، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره إلى مائتي دولار للبرميل، أي ضعف سعره الحالي، ورفع قيمة رسوم التأمين على ناقلاته بسبب زيادة المخاطر، في مثل هذا الوقت الذي يواجه فيه الغرب أزمة اقتصادية طاحنة. الإيرانيون ليسو أغبياء بحيث لا يدركون أنهم يواجهون حربا على أكثر من جبهة بدأت فعلا، أحد أسلحتها تجفيف مصادر الدخل الإيرانية من خلال العقوبات الاقتصادية (منع التعامل مع المصرف المركزي) والحظر النفطي (80 في المائة من دخل إيراني من العملات الصعبة مصدره العوائد النفطية)، وبما يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم، وانهيار العملة الوطنية الريال (خسر أكثر من 40 في المائة من قيمته في الأسبوعين الماضيين)، مما يجعل إيران غير قادرة على تلبية احتياجات 72 مليون نسمة، تعداد سكانها، ومساعدة حلفائها في دمشق حيث يواجه النظام السوري ثورة داخلية تهدف إلى تغييره، وفي لبنان حيث يواجه حزب الله احتمالات حرب طائفية داخلية، وهجوم إسرائيلي. إيران واجهت ظروفا مماثلة في الثمانينيات أثناء الحرب مع العراق، وحاولت إغلاق المضيق وتعطيل الملاحة فيه، وأطلقت عشرات الألغام البحرية، وصل بعضها إلى البحر الأحمر، مما خلق أزمة عالمية، اضطرت الولاياتالمتحدة إلى التدخل لحماية ناقلات النفط الكويتية في حينها. المخطط الإيراني لم ينجح في إغلاق المضيق، ولكنه أربك العالم، ورفع أسعار النفط. إيران الثمانينيات التي كانت تملك قوارب مطاطية فقط غير إيران العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فهي تملك الصواريخ والقوارب السريعة والغواصات، وباستطاعتها إغلاق المضيق لأيام، إن لم يكن لأسابيع، وهذا يكفي لهز الاقتصاد العالمي. بعض المسؤولين الخليجيين يلجؤون إلى طمأنة مواطنيهم من خلال التقليل من احتمالات حرب يقولون أن لا أحد يريدها، ويؤكدون أن التهديدات الإيرانية هذه ما هي إلا مناورة لتخويف الغرب، على أمل صرف نظرهم عن مسألة الحظر النفطي، ويقولون إن صانع السجاد الإيراني، الذي يغزل سجادته لأكثر من عام، ثم يحملها على كتفه طائفا على كل محلات تجار السجاد للحصول على السعر الأفضل، لا يمكنه، وهو الصبور، أن يتهور ويدخل في حرب مدمرة. صانع السجاد الإيراني صبور فعلا، وقد يضبط أعصابه ويسيطر على انفعالاته، ولكن عندما تصل الاستفزازات الأمريكية والإسرائيلية إلى ذروتها وتستهدف إهانته وهز صورته من خلال تنفيذ عمليات اغتيال لعلمائه النوويين وسط طهران، الواحد تلو الآخر، وتأليب الأقليات العرقية ضده وتجويع مواطنيه، فإن صبره ينفد، وضبط النفس يكون مقدمة للهلاك أو الموت البطيء. إيران مستهدفة أمريكيا وإسرائيليا لسببين رئيسيين، الأول محاولتها امتلاك أسلحة نووية تحقق التوازن مع إسرائيل، والثاني التحول إلى قوة إقليمية عظمى تهدد الهيمنة الأمريكية في منطقة الخليج التي يوجد فيها ثلثا احتياطات النفط في العالم، وتخلق موضع قدم لأعداء واشنطن فيها، أي الخليج، مثل الصين وروسيا والهند. الصراع الأمريكي مع إيران يمكن أن يتوقف فورا إذا تخلت إيران عن طموحاتها النووية وتصالحت مع إسرائيل، ولكن إيران لا تريد حتى الآن أن تتبنى أيا من الخيارين، منفردين أو مجتمعين، وتستفيد من تجربة الزعيم الليبي معمر القذافي والزعيم العراقي صدام حسين، فمجرد أن تخليا عن طموحاتهما النووية ودمرا أسلحة الدمار الشامل في حوزتيهما تعرض بلداهما للغزو، ونظاماهما للتغيير عبر التدخل العسكري. الجنرال بني غانتس، رئيس هيئة أركان الجيش الاسرائيلي، قال، في تصريحات صحافية، إن العام الحالي 2012 سيكون عاما حاسما بالنسبة إلى إيران، وهو لا ينطق عن هوى، فمن يزور منطقة مضيق هرمز ويرى تدفق السفن الحربية وحاملات الطائرات إليها، والجنرالات وقادة الجيوش ووزراء الدفاع إلى عواصمها، يدرك أن احتمالات الحرب أكثر من احتمالات السلام فعلا. شرارة الربيع العربي انطلقت من بوزيد، وحرب يونيو عام 1967 تفجرت بعد إغلاق مضائق تيران في وجه السفن الإسرائيلية، وقبل هذا وذاك انفجرت الحرب العالمية الأولى بفعل اغتيال دوق نمساوي؛ فالله وحده يعلم من أين ستأتي الشرارة التي قد تشعل حرب الخليج الثانية أو الثالثة أو الرابعة. مسؤول خليجي، لا أستطيع ذكر اسمه، قال لي وعلامات الحزن على وجهه، يا سيدي ماذا سنفعل لو أرسلت إيران زوارق انتحارية لتفجير محطات التحلية التي يعتمد عليها 90 في المائة من السكان في المنطقة؟ فقط تفجير معامل التحلية وتموت المنطقة عطشا. ذهبت بعيدا جدا وأنا أتأمل كلامه هذا، ولكنني أفقت على حقيقة أن أمريكا لا تشاور دول الخليج حول مشاريعها وخططها، وإن شاورتها لا تستطيع هذه الدول الاعتراض، ولم يكن من قبيل الصدفة أن تؤكد وثائق بريطانية جرى الكشف عنها مع مطلع هذا العام أن إسرائيل لم تتشاور مع أمريكا عندما هاجمت مفاعل تموز العراقي النووي عام 1981. الخليج ربما يعاني من العطش والخلايا النائمة، أما إسرائيل فقد تعاني مما هو أخطر من ذلك بكثير، فحائك السجاد الإيراني قد يثأر لكرامته الوطنية والشخصية ويقرر الانتقام لاغتيال علمائه، واختراق أمنه القومي، ومحاولات تجويع شعبه. الرئيس الباكستاني علي بوتو قال إن الشعب الباكستاني سيأكل العشب ولن يتخلى عن طموحاته إلى امتلاك السلاح النووي، وهكذا كان، والإيرانيون ربما يكون هذا خيارهم في نهاية المطاف، والله أعلم. إشعال فتيل الحرب ربما أمر سهل، لكن التحكم في نتائجها هو الأمر الصعب أو شبه المستحيل، ولا يخامرنا شك في أنه لا مقارنة بين القوتين الأمريكيةوالإيرانية، فأمريكا دولة عظمى، وإيران إحدى دول العالم الثالث، ولكن هل قرأت أمريكا التاريخ جيدا، هل يعرف خبراؤها أن الحرب بين الصفويين في إيران والإمبراطورية العثمانية قد استمرت أربعين عاما؟