تعرف مدننا الكبرى في الآونة الأخيرة اختناقات مرورية يومية حادة وغير مسبوقة، تتسبب في رفع حالات القلق والتوتر العصبي لدى المواطنين (سائقين ومسوقين) وتؤدي إلى ارتفاع الضغط والسكر وإلى الرفع من نسبة حوادث السير داخل المدار الحضري بشكل غير مسبوق. وقد توقف علماء السير والجولان (نعم، لكل ميدان «علماؤه» بما في ذلك بيع السيارات المستعملة، فلم لا يكون للسير علماؤه أيضا؟) عند هذه الظاهرة المستجدة بحثا عن أسبابها وطرق علاجها، لكنهم لم يتوصلوا إلى رأي موحد بخصوصها: فمنهم من رأى أن سببها الرئيسي هو تسهيلات القروض البنكية الاستهلاكية التي تقترب من تحقيق شعار «سيارة (وأكثر) لكل مواطن» في بنية طرقية لا تسمح بأكثر من «سيارة أجرة بيضاء لكل ستة مواطنين» (على الأقل)؛ ومنهم من رأى أن السبب الرئيسي للاختناقات المرورية هو أشغال الحفر العمومية التي نعرف جميعا متى تبدأ، لكن لا أحد منا (أو منهم) يعرف متى ستنتهي؛ فيما رأى طرف ثالث أنه ينبغي إعادة توزيع الإشارات المرورية بناء على دراسة ميدانية تحدد سيولة المرور في الأوقات العادية وأوقات الذروة، مع أخذ انتظارات السائقين والسائقات بعين الاعتبار. والحقيقة أن الأمر يتجاوز اجتهادات «علماء السير والجولان» (المشكور أصحابها، على أي حال) ليدخل ضمن إشكالية وجودية عميقة وشاملة، يصبح الاختناق المروري ضمنها مجرد علامة من العلامات المفرحة الدالة على خروجنا (من بيوتنا) ودخولنا «العصر» من أوسع أبوابه، بما يمكن تلمّسه في موقف ذلك المواطن المتوسط (المنتمي إلى «الأغلبية الصامتة» دون شك) الذي أنزله القطار في العاصمة بعد طول غياب عنها، فوجد نفسه يقف غير مصدّق عينيه أمام الترامواي وهو يقول في سعادة غامرة: «يا حليلي.. ولينا بحال فرانسا». إن موقف هذا المواطن من «العصر» لَيعبّر عن الحقيقة الفعلية للاختناقات المرورية اليومية أكثر مما يعبّر عنها العلماء والخبراء العاجزون إلى حد الآن عن التفاعل مع الواقع المتحوّل بما يجعلهم قادرين على إدراج ارتفاع نسبة حوادث السير، مثلا، داخل المدار الحضري وخارجه ضمن «الضريبة» التي ينبغي أن ندفعها ل«العصر» كمقابل لدخولنا إليه. ولعل إدراك هذه الحقيقة هو ما جعل عددا من المحطات الإذاعية الخاصة (إضافة إلى «الدوزيام»، طبعا) تغلق أبوابها أمام هؤلاء العلماء والخبراء وتفتح أمواجها للمواطنين العاديين (الذين لم يسبق لمعظمهم أن أكمل تعليمه النظامي) وحدهم فقط، لكي يعبروا عن آرائهم «الحكيمة» في كل شيء (من السياسة إلى الفلسفة، مرورا بعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد، وهلمّ جرّا). بذلك صار متاحا للمستمع العادي أن ينصت للمواطن العادي في محطة إذاعية عادية تعتمد كل برامجها على الاتصالات الهاتفية العادية بين منشّطيها ومنشّطاتها (المباحة هنا، بخلاف ما يجري عليه الحال في عالم الرياضة) وعموم المستمعين الذين يتحوّلون هنا، ويا سبحان الله، إلى متكلّمين، في ما صار يطلق عليه «إذاعة القرب» (لم يوضح لنا أحد إلى حد الآن لماذا اختيار «القرب» وليس «الدرعي» أو «الشرغو» مثلا؟) التي تعمل (أي الإذاعة) دون كلل ولا ملل على إدخالنا إلى «العصر»، من الناحية السمعية، فيما يتولى آخرون -كثّر الله خيرهم- إدخالنا إليه من الناحية البصرية أو السمعية-البصرية معا. يبقى فقط أنه أمام هذا «الإدخال» إلى العصر عنوة، لا يبقى لهؤلاء الخبراء والعلماء في مختلف التخصصات سوى أن يتخذوا من أحاديث هؤلاء المواطنين المستمعين-المتكلمين «عيّنة» يدرسون عبرها شكلا غريبا للعصرنة والتحديث يمسّ كل مظاهر الحياة البادية مع إهمال الجوهري فيها، وهو الإنسان الذي لا يطلب منه سوى شيء واحد: ألا يتطوّر وأن يظل كما هو، بوعيه وتربيته وتكوينه، أي أن يظل خارج العصر وخارج التاريخ.