لم يتبق لرجال الشرطة الذين كان مصيرهم العزل من الجهاز الأمني سوى اللجوء إلى طلب العفو الملكي، كبصيص أمل، خاصة أن هيئة الإنصاف والمصالحة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وغيرهما من المؤسسات الدستورية، صنفتهم ضمن الحالات الاستثنائية. «المساء» تروي معاناة أشخاص بدؤوا مسارهم المهني في سلك السلطة، لينتهي بهم المطاف في الشارع أو عالة على الأسرة. ويعيش هؤلاء المعاناة والتشرد والضياع بعدما وصل بعضهم إلى العتبة الدنيا من الفقر، وامتهان التسول وقضاء البعض الآخر لياليه في العراء. «عندما تتخلى الأم عن أبنائها» بهذه العبارة شبه رجال الشرطة المطرودون من العمل المديرية العامة للأمن الوطني، منهم من قضى أزيد من 18 سنة في خدمة هذا الجهاز الأمني ليكون مصير أغلبهم في نهاية المطاف هو الشارع. نتيجة جعلت بعضهم يصاب بمرض نفسي، وآخرين امتهنوا التسول لكسب مورد رزق لعائلاتهم. بعدما تلقى رجال الشرطة المطرودون نبأ عزلهم من عملهم بجهاز الأمن، اعتبروا القرار الذي صدر في حقهم «إعداما لهم ولأسرهم،» خاصة أن أسباب العزل كانت «جائرة»، على حد تعبيرهم، وبالتالي لم يكن تشبيه القرار ب«حكم الإعدام» عشوائيا، خاصة أن القانون المنظم لا يسمح لهذه الشريحة بولوج أسلاك الوظيفة العمومية إلا بعد مرور عشر سنوات ابتداء من تاريخ صدور قرار العزل. وخلال هذه المدة منهم من سيفوته الركب لأن عمره يربو على الخمسين أو الستين، ومنهم من سيقضي نحبه وسيترك وراءه عائلة كان المعيل الوحيد لها. يقول حميد، أحد الذين لحقهم قرار الطرد، إن الشرطي المعزول من عمله لا يعرف أن يشتغل في قطاع غير الجهاز الأمني لأنه لم يسبق له أن تلقى تكوينا في مجال غير هذا، واعتاد أن يتعامل مع المحاضر وغيرها من الأمر المرتبطة بهذا المجال. وأضاف حميد أن الشرطي كما يقال عنه في العامية «دكين ليه لبرا»، أي أنه لا يجيد أي عمل سوى هذا، ولهذا فتغيير الشرطي ل«جلبابه» وارتداء «جلباب» آخر يضمن له رزقه من أكبر المعيقات، لأنه لم يتلق تكوينا في مجال ما، ولم يتبق له سوى العمل في الحرف الدونية. لم يجد أحد ضحايا العزل الوصف الأقرب للوضع الذي يعيشونه إلا بتشبيهه بتلك السمكة التي تخرج من الماء، إذ لا يمكن لها أن تعيش بعيدا عن البيئة التي ألفتها، والحال ينطبق على الشرطي الذي يسعى إلى ضمان مورد رزقه خارج المؤسسة الأمنية. وواصل حميد كلامه بعدما قاطعه أحد المعزولين قائلا: «لنعتبر أن الشرطي ارتكب خطأ إداريا فهناك عقوبات بديلة تتم بالتدرج بناء على القانون المنظم»، مشيرا إلى أنه تمت معاقبته قبل صدور قرار العزل، حيث قضى عقوبة حبسية مدتها عامان، ومباشرة بعد خروجه تمت إضافته إلى قائمة المعزولين. واستغرب حميد الطريقة التي تُتخذ بها القرارات داخل دواليب المديرية العامة للأمن الوطني، والجدوى من العقوبة التي قضاها ما دام مدرجا ضمن قائمة المعزولين، فإن كانت العقوبة الحبسية التي قضاها وراء القضبان هي عقاب على ارتكاب خطأ إداري، وبعد انتهاء المدة وخروجه من السجن مبتور الأوصال، متسائلا عن الخطأ الذي ارتكبه حتى يتخذ في حقه قرار العزل، والأغرب من ذلك أكد حميد أنه بعد العقوبة الحبسية وبعد مناقشة المجلس الأعلى لطلب النقض والإبرام كان الحكم النهائي شهرا موقوف التنفيذ ليكتشف أن العقوبة التي قضاها كانت عن طريق الخطأ. طُرد لأنه طلب حقا من حقوقه قصة ياسر جزء لا يتجزأ من معاناة «ضحايا العزل».إذ بعدما طلب ياسر الانتقال إلى المدينة التي يقطن بها، حينما ألم المرض بابنه، حيث ذهب لزيارته، كان مصيره الطرد من العمل، وهو ما اعتبره لا يحترم التسلسل الذي ينص عليه القانون المنظم للمؤسسة على اعتبار أن قرار العزل هو آخر العقوبات وأشدها. يحكي ياسر عن معاناته اليومية بعدما ترك زوجته لأنه لم يعد يملك الجرأة للبقاء مع زوجة تتكفل بمصاريف البيت، ليكون مصيره العودة إلى كنف أسرته التي تضامنت معه وتفهمت وضعه، في انتظار إيجاد حلول تعيد للشرطي كرامته. مهددون بمعضلة الطلاق من أكبر المخلفات الاجتماعية التي نجمت عن الطرد هو الطلاق. يحكي أحد المطرودين أنه على الرغم من قضاء فترة طويلة في قفص الزوجية، فإن عددا منهم تقدمت زوجاتهم بطلبات الطلاق، خاصة ربات البيوت، بعد انقطاع مورد رزقهن بسبب طرد أزواجهن، حيث أصبح هؤلاء عالة على المجتمع، وفي أحسن الأحوال تضطر الزوجات إلى العمل خارج البيت، كحالة عبد المنعم الذي كان المعيل الوحيد للأسرة والأبناء، مما دفع بالزوجة إلى العمل خادمة في البيوت. استسلم منعم للبكاء قبل أن يواصل كلامه قائلا: «لم أكن أتوقع يوما أن تنقلب حياتي رأسا على عقب وتتحول إلى جحيم، حتى أصبحت الزوجة تخرج مكرهة للعمل في البيوت من أجل ضمان الرزق للأبناء وحمايتهم من الضياع»، مضيفا «إن ما يحز في نفسي هو أن الضحية الأولى هم الأبناء الذين لم يتعودوا على رؤية أمهم تخرج إلى العمل خارج البيت وتحني رأسها لغسيل الآخرين فيما الأب دون عمل». ضابط شرطة «كسال» بأسى شديد ودموع يذرفها الضحايا بحرقة، وهم يحكون عن معاناتهم ومعاناة زملائهم في العمل، قال أحد هؤلاء إن البعض وصل به الفقر إلى العتبة الدنيا، لدرجة أن أحد الضباط، الذين كانوا ضمن لائحة المعزولين، لم يجد أمامه سوى العمل بأحد الحمامات الشعبية بمدينة الدارالبيضاء، والاستسلام لغسل «الأجساد الآدمية»، التي تجود له ب 20 درهما أو أقل في بعض الأحيان، بعدما كان رجل سلطة. وأضاف الضحايا المقربون من الضابط أنه يعاني من أمراض نفسية، لأن نزول الشخص من مرتبة عليا إلى دنيا هو موت بطيء في مجتمع لا رحمة فيه ولا مكان فيه إلا للأقوياء وذوي النفوذ. شرطي يبيت في العراء لم يتردد عزيز، الشرطي الذي قدمت له المديرية العامة للأمن الوطني في سنة 2004 هدية صنفها من العيار الثقيل: «قرار الطرد» بسبب سوء تفاهم مع مواطن. الغريب في الأمر، يضيف عزيز، أن سوء التفاهم وقع خارج أوقات العمل. يروي عزيز (أب لطفلين) أنه يعيش وضعا مزريا جدا، وأنه اضطر إلى تطليق زوجته بعد معاناة كثيرة. ويضيف أنه الآن يعيش في العاصمة الإسماعيليةمكناس بدون مأوى، بعدما تخلت عنه أسرته فأصبح يتنقل بين المدن بحثا عن عمل، غير أن فرص العمل ضئيلة جدا، خاصة أنه لم يتلق أي تكوين آخر حتى تتاح له إمكانية الاشتغال في مؤسسة معينة. ويواصل عزيز كلامه، بنبرة تخنقها دموع الحزن والأسى، أنه يفترش الأرض ويلتحف السماء، ويقضي معظم أوقاته في التسكع، أما في الليل فلا يكون أمامه خيار سوى الاختلاط بالمتشردين والمنحرفين، وإلا سيلفظه الشارع أيضا في حال عدم انسجامه مع هذه الشريحة المنبوذة من المجتمع. كان قدر عزيز، بعدما حاول اللجوء إلى دفء الأسرة علها تخفف من معاناته ولو ببعث القليل من الأمل في الحياة، هو الشارع والتسول وأكل بقايا الأكل الذي تجمعه المطاعم لتعطيه للقطط الضالة، حيث أصبح الشرطي هو الآخر يتسابق لأخذ نصيبه منها ليضمن على الأقل البقاء في الحياة، ولو أن الكرامة داستها الأقدام «المتسخة» التي لا تعرف طريق الرحمة، على حد تعبير عزيز. يقول عزيز إنه اشتغل لمدة قصيرة حمالا مع أحد الفلاحين الذي يملك ضيعة فلاحية في منطقة «جنانات» بضواحي مكناس، قدم له يد المساعدة بعدما حكى له عن ظروفه ووضعه المأساوي، إذ وفر له خيمة في الضيعة للمبيت بها بدل المبيت في العراء، ونظرا لموسمية العمل في المجال الفلاحي، اضطر عزيز إلى مغادرة الضيعة في اتجاه الشارع، واحتراف التسول وغيرها من السلوكات التي فرضتها عليه الظروف القاسية. يشكو عزيز من عدد من الأمراض جراء سوء التغذية والنقص الحاد في الفيتامينات الضرورية للجسم، حيث الوجبة اليومية التي يتناولها، يضيف، لا تتعدى «البيصارا»، لدرجة أصبح صاحب المطعم يقدم له هذه الوجبة دون أن يسأله عن طلبه. تعويضات هزيلة بعد طردهم من العمل تلقى بعض المطرودين مبلغا لا يتعدى 20 ألف درهم. يقول أحدهم إن هذا لا يمكن منحه اسم تعويض، لأنه جد هزيل ولا يسمن ولا يغني بالنسبة إليهم، خاصة أن جلهم يعيلون أسرهم، بل منهم من أصيب بأمراض مزمنة، على رأسها السكري، فيما آخرون أقعدهم المرض بعدما أصيبوا بصدمة، لأنهم يجهلون القدر الذي ينتظرهم بعدما فقدوا عملهم، والبعض الآخر تحول إلى بائع متجول أو إلى متسول، بعدما كان يمتلك السلطة نظرا لكونه يشتغل في جهاز الأمن. شرطية تتعرض للضرب داخل المديرية لم تمض أربع سنوات على اشتغالها في جهاز الأمن حتى تعرضت مريم للضرب داخل أحد الأقسام التابعة للمديرية من طرف ثمانية موظفين، حسب التصريح الذي أدلت به ل«المساء». جاء ذلك بعدما رفضت التوقيع على وثيقة تجهل مضمونها، كما لم يعطوها مهلة للاطلاع على ما تضمنته الوثيقة، لتدرك فيما بعد أنها ستنال نفس مصير المطرودين. وتضيف مريم أنها استغربت عندما طلبوا منها التوقيع على الوثيقة سالفة الذكر وسلموها قلم رصاص بدل قلم حبر، مفسرة ذلك بسعيهم إلى تزوير التوقيع وإلباسه المضمون الذي يناسبهم. وقبل العقاب الذي نالته، كانت مريم قد تعرضت لحادثة سير، في الوقت الذي كانت في عطلة مرضية ومباشرة بعد استئنافها العمل، كان مصيرها العزل. وبعد وفاة زوجها الذي، على الأقل كان سيحميها من «شراسة الشارع»، كما تقول، وجدت نفسها تلعب دور الأب والأم في الآن نفسه لإعالة ابنها البالغ من العمر 13 سنة. السكن بغرفة قرب مرحاض
تقول مريم والدموع تنزل على خديها إنها لم تجد مأوى سوى غرفة صغيرة بالقرب من مرحاض، ولم تجد معيلا لها سوى عائلتها التي تقدم لها بين الفينة والأخرى ما يساعدها على تخطي الأزمة، وفي مقابل ذلك فهي مجبرة على الخروج إلى العمل خارج البيت، لتوفير ما تسدد به حاجياتها. التنسيقية..احتواء للوضع تمخض عن تناسل أعداد المطرودين من الإدارة العامة للأمن الوطني بعدد من المدن المغربية ميلاد مولود جديد يحمل اسم التنسيقية الوطنية لضحايا العزل من أجل احتواء الوضع والدفاع عن حقوق المطرودين. وتضم التنسيقية ما يقارب 700 حالة والعدد مرشح للارتفاع. وبعد الكثير من المحاولات التي قامت بها التنسيقية التي تتحدث باسم كل المطرودين، لإيجاد آذان صاغية لإيجاد حل لمعاناتهم، كانت الأميرة للامريم أول المتدخلين بعد مراسلتها الإدارة العامة للأمن الوطني من أجل فتح باب الحوار في وجه هذه الشريحة، غير أنه إلى اليوم لا ساكن تحرك باستثناء بعض اللقاءات التي تمت بين التنسيقية ومدير الموارد البشرية، حسب ما أكده محمد كردودة في تصريحه ل«المساء».
«الحكرة والإهانة» «الحكرة والإهانة»هذه العبارة أضحت تلاحق رجال الشرطة المطرودين من عملهم، في الشارع كما في المجتمع، بعدما كانوا يتحركون بفخر واعتزاز بزيهم الرسمي، حيث كان الكل يحترمهم. لكن الوضع الذي يعيشونه اليوم لم يعد كذلك بعدما جُردوا من صفة رجل الأمن وصُنفوا في خانة المواطن المدني، وقد وصل الأمر لدى شريحة عريضة منهم إلى تفادي مقابلة أحد المعارف أو المقربين منهم، لأن المجتمع يحتقر الرجل الذي يسقط من سلم السلطة إلى سلم أقل مرتبة. وعلى ذكر المرتبة الأقل أو الأدنى، فإن رجال الشرطة الذين طردوا من عملهم لأسباب أو أخرى، أغلبهم لا يملكون اليوم أي صفة، حيث يعيشون العطالة والتشرد، خاصة أن فرصة العمل في القطاع الخاص شبه مستحيلة، لأن شروط العمل به لا تتوفر فيهم. وما زال المعزولون، من بينهم نساء، بعدما قضوا سنوات طويلة في خدمة الجهاز الذي طردهم، يعانون ظروفا قاسية بسبب الإقصاء والتهميش الذي طالهم سنوات عدة، وعزوا ذلك إلى كون الأسباب الحقيقية تدخل في حسابات شخصية مع رؤسائهم، خصوصا أن النظام الداخلي للإدارة غير ملزمة بإصدار عقوبات إدارية قاسية، وبالتالي فهي جائرة لأن هناك ملفات لا تستدعي إصدار قرار العزل فيها. وإذا كان عدد الذين تم عزلهم من عملهم يقدر ب700 مطرود، وضعوا ملفاتهم لدى ممثلي «تنسيقية رجال ونساء الأمن الوطني ضحايا العزل» الموجودين بمختلف جهات المملكة، فإن لائحة المسجلين الجدد مرشحة للارتفاع، خاصة بعدما خرجت «التنسيقية» أول مرة إلى الشارع العام لطرح مشكلها على الرأي العام، لأن مصير رجل الشرطة أو رجل الأمن تنطبق عليه مقولة «أنا اليوم وأنت غدا»، حسب قولهم، أي أن مجموعة من موظفي الجهاز الأمني مهددون بالطرد في أي لحظة، بعدما أصبحت قرارات العزل العقوبة الأولى والأخيرة التي تُتخذ في حق كل من ارتكب خطأ إداريا بسيطا، دون إحالته على المجلس التأديبي.