ستنفرج أسارير المغاربة بالإعلان عن ميلاد حكومتهم بالمواصفات الرشيدة التي انتظروها، ليُتوج بذلك مسار نقل البلاد من مرحلة إلى أخرى، بعد شهور من المخاض الصعب الذي صاحب موجات الربيع العربي، التي ضربت بلدانا عربية، تاركة آثارها المدمرة على بعضها ويعترف العامة في الشارع بأنه إلى حدود هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من بلاده، بعد لأيٍ ومراوحة، وتنحي الرئيس المصري حسني مبارك بعد أسبوعين من المناكفة، لم يكونوا ليتوقعوا ما انتهى إليه الأمر في بلادهم، من تحولات عميقة همت بنية الحكم ومؤسساته. ومع اعتماد المملكة المغربية لدستورها الجديد في فاتح يوليو 2011 وقبول الفرقاء بنتائج الاستحقاقات النيابية الأخيرة، التي بوأت حزب «العدالة والتنمية» المعارض الصدارة، تكون البلاد قد قطعت شوطا مهما في مسار الإصلاح، توج بتكليف السيد عبد الإله بنكيران برئاسة أول حكومة في ظل الدستور الجديد. وقد لاحظنا كيف تابع العامة، باهتمام، تفاصيل مشاورات تشكيل الحكومة، في اتجاهيها الأفقي والعمودي، ووقفنا على حالة التوجس التي تملكت الجميع، خشية العودة إلى المربع الأول، الذي من شأنه أن يقود إلى إجهاض حلم، خرج من أجله الشباب إلى الساحات وقدم في سبيله أجيال المناضلين الوطنيين الكثير من التضحيات. ولا يكترث العامة، كثيرا، لأسماء الشخصيات التي حازت ثقة الملك محمد السادس، بقدر ما يهمهم قدرة الفريق الجديد على تنفيذ البرنامج الحكومي في الحدود الممكنة، التي تلبي احتياجات الشعب التواق إلى أن يعيش أياما يسود فيها الإنصاف والعدل وتتيسر فيها فرص العمل للعاطلين وتشيع المعرفة ويتكرس الحق للجميع في السكن والتطبيب والعيش الكريم. ونحسب أن بنكيران على بينة مما ينتظر حكومته في أيامها الطويلة، من تحديات، يتعين معها التحكم في منسوب الحكامة بشكل لا يحدث الاصطدام المجاني مع اللوبيات المتجذرة وتصريف الحريات الفردية والجماعية، والتعامل بالنجاعة الكافية مع التحديات المرتبطة بالفقر والبطالة وتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية ومعضلة الأمن والاستقرار. ولعل انطباعات وزير الداخلية السابق، شكيب بن موسى، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، عن كون البلاد ليست بمنأى عن ما يحيط بها من تحولات، تحمل في طياتها مخاوف من أي انتكاسة في مسار الإصلاح يمكن أن تهدد السلم الاجتماعي القائم، أساسا، على توازنات مهلهلة، جراء استشراء الفساد والمحسوبية واقتصاد الريع. ويدرك الناس الدور المهم للملكية في تأمين التحول وضمان الاستقرار وتعزيز دور المؤسسات وحماية الوحدة الوطنية والترابية للبلاد، بتكامل مع المؤسسات الأخرى، في حدود ما يتطلبه ذلك من يقظة لتدبير بعض الطموحات التي يمكن أن تكون لها آثار عكسية على مشروع الإصلاح برمته، وقد تعرقل مسار بنائه بشكل متدرج ومتوازن. وما من شك في أن توافق المؤسسة الملكية والمؤسسات الدستورية الأخرى على حدود الإصلاح ومتطلباته، سيكون عاملا مُمهدا لعملية التنزيل الصحيح لمقتضيات الوثيقة الدستورية الجديدة، باعتبارها من الأوراش المؤسسة، التي قُدر لحكومة بنكيران أن تُباشرها بالتعاون مع مؤسسة البرلمان، صاحبة السلطات التشريعية الكاملة. ومن المؤكد أن بناء المشهد الديمقراطي في البلاد لن يكتمل إلا ببروز رأي معارض، قوي وبناء، يجعل سقف الإصلاحات المطروحة من قبل الحكومة أمام اختبار الواقعية ويحملها على قياس نبض الشارع ومسايرة اتجاهاته، وذلك مع حرص الأطراف، في الغالبية والمعارضة، على الحفاظ، قدر الإمكان، على المسافة الكافية مع مراكز النفوذ والتأثير. وإذا كان الملك قد فرض حدودا من الأهلية والكفاءة لقبول الأسماء المقترحة ل«الاستوزار»، خلافا للمرة السابقة، كما ورد في بعض التقارير الإعلامية، فإن في ذلك إشارة قوية للمضي قُدما في مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية بوتيرة تمكن البلاد من تدارك الاختلالات التنموية، التي تجعلها تحتل أدنى الرتب في المؤشر العالمي للتنمية. وما يزال صناع القرار في البلاد في بحث دؤوب عن السياسات القطاعية التي تمكنها من تدارك الاختلالات لتقويم ميزان التنمية البشرية، الذي ما انفك يميل ببطء نحو التحسن وبدرجات متفاوتة لا تذكرها التقارير الدولية، مما يثير حنق المسؤولين المغاربة، اعتبارا للجهود التي تبذلها الدولة في هذا المجال. ومع ذلك، لا تبحث التقارير الرسمية عن تفسير احتلال المغرب للرتبة 130 في مؤشر التنمية العالمي، سوى ما تنقله من مؤشرات مقلقة عن حوالي 6 ملايين من المغاربة يظلون في وضعية الأمية ومثلهم يرزحون تحت عتبة الفقر، بينما يعيش أكثر من مليون وربع مليون مغربي في وضعية البطالة. أما مؤشرات التغطية الصحية ونسبة وفيات الأمهات والأطفال عند الولادة، فإنها تشكل بدورها تحديا أمام وفاء المغرب بالتزاماته إزاء بلوغ أهداف الألفية للتنمية، علاوة على مشاكل البيئة والمحيط وحالة العزلة التي تعاني منها بعض المناطق الريفية في الجبال والصحاري وفي حواشي المدن الكبرى الأكثر هشاشة. وأمام هذه التحديات، سيبدو الحديث عن تعزيز منسوب الحريات الفردية والجماعية من قبيل الترف، إذا كانت الواقعية تقتضي تحديد أولويات العمل الحكومي في خلق التوازنات المطلوبة بين الطبقات وتوفير سبل العيش الكريم للمواطنين وتحسين الولوج إلى الخدمات الأساسية والحد من ظواهر التطرف الاجتماعي بأنواعه. وستبقى، فيما يبدو، الملفات الاستراتيجية، بيد أمينة، بعد انتداب العاهل المغربي لشخصيات مؤثرة كمستشارين بالديوان الملكي، لمباشرة العمل على الملفات التي تحمل الرؤية الملكية لمستقبل المغرب على المديين المتوسط والبعيد، وفي طليعتها ملف الصحراء ومشروع الجهوية المتقدمة ومعضلة الأمن ومكافحة الإرهاب وقضايا الاستثمار والعلاقة مع الشركاء الإقليميين والجهويين والعالميين. وسيشكل التنزيل السليم لأحكام الوثيقة الدستورية الجديدة أهم انشغالات الفريق الحكومي الجديد برئاسة عبد الإله بنكيران، في أفق الاستحقاقات المقبلة التي ستعمل خلالها الأحزاب المختلفة على تصحيح وضعيتها، بما يمكنها من تحصيل أكبر قدر من المكتسبات، سواء على مستوى المجالس المحلية والجهوية أو على مستوى مجلس المستشارين. وإلى جانب ملفات الحكامة ومكافحة الفساد ودعم الحريات، فإن الحكومة ستجد نفسها مطالبة بالمحافظة على السلم الاجتماعي وخلق الجو المناسب للاستثمار الداخلي والخارجي والتعامل مع تحديات الأزمة الاقتصادية العالمية وتدبير رهانات تحديث الإدارة وإصلاح القضاء ومعالجة اختلالات المنظومة التعليمية والصحية والاهتمام بملف السكن الاجتماعي ومكافحة الفقر والبطالة. ومع الإحساس المتزايد بالأمل في التغيير، الذي يحدو عامة الشعب في الشارع، ومنهم أكثر من مليون ونصف مليون منحوا أصواتهم للحزب الحاكم، فإن الحمل سيتضاعف، وهامش الخطأ المسموح به لفريق بنكيران سيكون أكثر ضيقا من ذي قبل. محمد سالم الشرقاوي