إن إشكالية التعليم من القضايا العويصة والصعبة في بلادنا، تتداخل فيها عدة مسارات أثرت على المنظومة التعليمية والتربوية وجعلت التعليم لا يأخذ طريقه للتطور والنمو والمردودية... وأصبح عبارة عن حقل للتجارب مثل ذلك المثل القائل: «إن الغراب أراد أن يقلد مشية الحمامة، ففقد مشيته»، وهذا حال تعليمنا. فلم تطرح في أي فترة إشكالية التعليم وربطها بالتنمية، وكل ما في الأمر هو التدريس بدون مسار ولا هدف استراتيجي، ندرس فقط من أجل محاربة الأمية، والتعليم الملقن ليس هو التعليم الهادف أو المنتج، الذي يضع نسقية متكاملة مع كل حقول المعرفة وأنسجة اقتصادية أو خدماتية. في موجة الفوران الاجتماعي والاحتجاجي هذه، يجب إعادة النظر في كل المفاهيم التربوية والمناهج والبرامج الدراسية لكي تتماشى مع تطور المجتمعات. لهذا، فإن المسؤولين على القرار التربوي والتعليمي مدعوون إلى إعادة النظر في كل الطرق البيداغوجية التي تجعل من التلميذ (الطفل) مثل الوعاء، يستهلك فقط ولا ينتج، أي بمثابة بنك تضع فيه الوديعة بدون مناقشتها أو استثمارها، وهي الطريقة التقليدية أو الطريقة التقليدانية، التي تجعل التلميذ ينسلخ عن مؤهلاته ومقدوراته في الخلق والإبداع وجعله إنسانا خنوعا مطواعا. وقد أثبتت الدراسات المتخصصة في علم النفس التربوي أو الاجتماعي أن من أسباب تردي المجتمعات وشيوع الفساد فيها بمختلف أشكاله، أهداف التربية ووسائلها التعليمية، التي لا تعتمد على ما يسمى ثقافة حقوق الإنسان أو الثقافة على المواطنة أو أن المدرسة لا تقوم بتسويق مسوغات تتعلق بفلسفة الأخلاق مثل الكرامة والسلوك المدني ومحاربة الرشوة والميز... الخ. إنها عتبة متعلقة بالتنظير في إطار التربية أو إنقاذ التعليم لبسط ميكانيزمات اعتماده عليها وتشخيصها. لقد آن الأوان لتضافر كل الإرادات من أجل أن تحول الإشكالية إلى مشكلة، وبالتالي نبحث عن الحلول الملائمة لها لمعالجتها، وجعلها قاطرة للتنمية المستدامة وتزويد كل القطاعات بالخيرات والكفاءات والتخصصات التي يحتاجها النسيج الاقتصادي والخدماتي والصناعي، باعتبار التعليم هو عصب الحياة المجتمعية. وإذا أرادت الدولة أن تطرح قضية التعليم وإنقاذه طرحا استراتيجيا، فإن الإنقاذ يبقى ساري المفعول بالرغم من أن المغادرين في مختلف الحكومات لا يؤثرون على تطوره، كما لم تنفع مع إشكالية التعليم كل الطروحات التي سادت في العشرية الأولى من الألفية الثالثة حول إنقاذ التعليم وإصلاحه، خاصة الميثاق الوطني للتربية والتكوين أو البرنامج الاستعجالي الذي استنفد خمسيته، ولم يكن له أي تأثير على المردود التعليمي. فلم تتحرك عجلة الإصلاح ولا عجلة التغيير في المنظومة التعليمية، وهذا ما نستشفه من تدهور المدرسة العمومية سنة بعد سنة لصالح المدرسة الخصوصية.. المدرسة العمومية التي يرجع لها الفضل في تخريج الأطر والتي سدت النواقص في الإدارة المغربية... وبالرغم من تواضع الموارد والوسائل آنذاك، فإن الإرادات كانت أقوى من الصعوبات، وترجمت المبادئ الوطنية إلى أرض الواقع، مجسدة في الكتاب المدرسي، الذي كان رائده الأستاذ المرحوم أحمد بوكماخ، الذي يعتبر قمة في الإبداع وليس في الإتعاب، كما هو المعمول به حاليا في الكتاب المدرسي. إن أحمد بوكماخ أعطى استباقا لنظريات علم النفس التربوي لرائدها جون بياجي، فكان الكتاب المدرسي بحق في المرحلة الابتدائية والإعدادية قمة في الخيال العلمي والأدبي وكان عبارة عن تغذية راجحة، اندفع حوله المدرسون والكتاب، واعتبر في حينه كتابا مدرسيا ناجحا لاحتوائه على مخزون معرفي وثروة لغوية دسمة قل نظيرها في الكتب المدرسية الحالية لنفس الفترة الإعدادية. ولهذا، آن الأوان من أجل إصلاح المنظومة التعليمة لكي تتماشى مع روح العصر من جهة، والحفاظ على الخصوصيات المجتمعية للأمة المغربية متعددة الأعراق والثقافات ومتناقضة المناظر الجغرافية واللهجات. وهذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال القديم الجديد: من نعلم؟ كيف نعلم؟ ماذا نعلم؟ إن الخطاب التعليمي والتربوي يجب أن يستند على ثلاثية متحركة منها المادة (البرنامج) الطفل (التلميذ) والمدرس (تسوية وضعية رجال التعليم)، هذه الثلاثية تعتبر من بين أهم أسس النسق التربوي، فإذا اختلت إحداها أصيبت كلها بالشلل وعدم العطاء والتجاوب مع روح التطور العلمي والمعرفي، الذي يدفع به النمو الاقتصادي والاجتماعي أي التنموي. فالرهان الأكبر كل الرهان، معروض الآن على الحكومة المرتقبة التي يعول عليها لكي تصالح المنظومة التعليمية مع محيطها السوسيو اقتصادي، وكذا تحويل التعليم كرافعة أساسية للتقدم العلمي والتطور التنموي وأن تكسب البلاد مهارات التطور التكنولوجي لكي تنخرط في مجتمع الإعلام والتواصل والفكرولوجيا وجعل التعليم نسقية متناغمة مع كل القطاعات الاقتصادية، وجعل الرؤى واضحة وتصوراتها دقيقة، لهذا يجب أخذ الموضوع بكل جدية وجرأة، خاصة قضية التعريب هل هي في صالح تعليمنا أم يجب أن تراجع بطريقة جذرية لمصلحة الأمة والوطن؟ لهذا، فإنه على أصحاب القرار التربوي والتعليمي أن يكونوا على دراية بحاجات التعليم لكي تتسنى لهم سرعة إصلاحه، وهكذا يجب وضع هيكلة واضحة للأكاديميات ليس كنظام، بل كوحدات للبحث وتسريع وثيرة إنقاذ التعليم كأحواض متناغمة مع محيطها، توسيع صلاحيات مجالس التدبير لتحويلها إلى صلاحيات تنفيذية وليست استشارية داخل المؤسسات التعليمية وجعلها تتميز بالمبادرة وتحسين الجودة والخدمات التربوية المقدمة للتلاميذ والأطر التربوية على حد سواء. تقوية الدعم الاجتماعي والتربوي للتلاميذ، الذين يعانون من العوز الاجتماعي، وخاصة في المغرب العميق وتعميم المطاعم المدرسية والداخليات وتقوية الفضاء التعليمي بروح الابتكار والخلق والإبداع وجعل هذا الفضاء مستقطبا ومحفزا لولوج التلاميذ، وخاصة الفتيات منهم. تقوية الشراكة الفاعلة والمجدية مع كثير من المؤسسات والمكاتب الوطنية في الجهات وجعلها شراكات داعمة للبرنامج التعليمي. إحداث محاور إطار بين وزارة التعليم المدرسي ووزارة الشبيبة والرياضة للبحث عن طاقات شابة في مختلف الرياضات الجماعية والفردية وجعل المدرسة بمثابة المزرعة لتزويد المعاهد بالشباب بصفة رسمية أو في أوقات مواسم العطل. لهذا، فإننا ساهمنا قدر المستطاع في تشخيص إشكالية التعليم وطرح بعض فتوحاته لإنقاذه... بقلم أستاذ باحث