رحل في الأسبوع الماضي عن دنيانا د. إبراهيم سعد الدين عبد الله، المفكر اليساري، وأستاذ الإدارة. وقد اختلط على كثيرين تشابه اسم هذا الرجل العظيم مع اسمي (سعد الدين إبراهيم)، فتلقى أفراد أسرتي في مصر عشرات برقيات العزاء من الأصدقاء والمريدين. وإنا لهم شاكرون، رغم أنني مازلت حياً أرزق. ولكنها مناسبة للإشادة بأستاذ عظيم تعلم منه أبناء جيلي في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولم ينل ما يستحقه من تكريم في حياته، بسبب تغير أحوال مصر والعالم. كان د. إبراهيم سعد الدين يكبرني بخمسة عشر عاماً على الأقل، وفي مرحلة دراستي الجامعية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، كان هو أستاذ بكلية التجارة بنفس الجامعة. وكان نجماً ساطعاً في عالم الفكر اليساري الماركسي في تلك السنوات، مع آخرين من أبناء جيله، مثل د. إسماعيل صبري عبد الله، ومحمد سيد أحمد، وسمير أمين. ولانبهارنا بالفكر اليساري في ذلك الوقت، كنا كشباب نسعى إلى الاستزادة من أصحابه في أي كلية من كليات الجامعة. وكثيراً ما كنت وغيري نذهب إلى كلية التجارة للاستماع إلى والحوار مع د. إبراهيم سعد الدين. وكانت شخصية الرجل الجذابة، ولغته العذبة، وابتسامته الوديعة، وقدرته الفذة على تبسيط الفكر الجدلي الماركسي مما يُضاعف من التفاف الشباب حوله. ولم يغب ذلك عن أنظار النظام الناصري الحاكم في تلك الحقبة، فتعرض الرجل للاضطهاد والاعتقال حيناً. ثم بعد ما قرر عبد الناصر أن يتبنى الاشتراكية منهجاً للتغيير والتنمية، لجأ إلى إبراهيم سعد الدين ليكون أحد المسؤولين عن التثقيف في منظمة الشباب بالتنظيم السياسي الأوحد الذي كان مسموحاً له بالنشاط وهو «الاتحاد الاشتراكي العربي». وتزامنت تلك الحقبة مع سفري إلى الولاياتالمتحدة للدراسة العليا والحصول على الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي. ولكني ظللت أتابع كتابات د. إبراهيم سعد الدين عن بُعد... وكثيراً ما كنت أستعين بها خلال سنوات قيادتي للحركة الطلابية العربية بأمريكا الشمالية. وحينما عدت إلى مصر في منتصف سبعينات القرن الماضي كان عبد الناصر قد رحل، وخلفه أنور السادات الذي تخلى عن الفكر اليساري، وتبنى سياسة مغايرة، سماها «بالانفتاح الاقتصادي». وانحسرت الأضواء عن د. إبراهيم سعد الدين وأمثاله، وإن سمح لهم السادات بحزب يمارسون فيه بعض أنشطتهم، وهو حزب «التجمع الاشتراكي الوطني». ومع ازدياد نشاطي في الحياة العامة، وخاصة من خلال مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ومركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ومنتدى الفكر العربي في عمان، ثم مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية. وأصبح اسمي أكثر تداولاً. ولكن بسبب تشابه مفردات الاسمين: سعد الدين إبراهيم، وإبراهيم سعد الدين، اختلط الأمر على كثيرين، ومنهم الرئيس حسني مبارك. من ذلك، أنه خلال أول لقاء معه في أواخر السبعينات، وكان ما يزال نائباً للرئيس، قال: «إن أفكارك معتدلة... فلماذا لا تكف عن موضوع الماركسية ذاك»! فقلت له إنني لست ماركسياً، وإن كنت قد أعجبت بالفكر الماركسي في شبابي»، فرد حسني مبارك: «غريبة.. ألم تشارك في تأسيس الحزب الشيوعي المصري؟». فأدركت على الفور أنه خلط بيني وبين د. إبراهيم سعد الدين.. وشرحت ذلك... ورغم استماعه إلى التوضيح في تلك المقابلة الأولى، إلا أنه في كل مقابلة تالية ظل يُخلط بيني وبين د. إبراهيم سعد الدين. وأظن أنه لم يتوقف عن هذا الخلط إلا بعد أن ظهرت لي مقالة أقترح فيها السماح للإخوان المسلمين بتكوين حزب سياسي علني. وقد أغضب ذلك المقال حسني مبارك كثيراً، ولكن نفس المقال هو الذي ساعده أخيراً على عدم الخلط بين الاسمين. فقد كان من المستبعد على مفكر ماركسي (إبراهيم سعد الدين) أن يدعو إلى إنشاء حزب للإخوان المسلمين! وفي حينه أخبرت د. إبراهيم سعد الدين، مُتندراً، بذلك الخلط الذي كان يقع فيه حسني مبارك، فرد الرجل بأنه ليس حسني مبارك فقط، ولكن آخرون غيره يُخلطون. ولذلك قرر هو أن يستخدم اسماً ثلاثياً، فأضاف اسم جده، وأصبح منذ نهايات القرن الماضي يكتب اسمه «إبراهيم سعد الدين عبد الله». وتوقف الخلط عند بعض الناس، ولكنه استمر عند البعض الآخر. خلال العقدين الأخيرين من حياة د. إبراهيم سعد الدين عبد الله، شارك مع صديق حياته د. إسماعيل عبد الله في إنشاء «منتدى العالم الثالث»، الذي قدم دراسات مستقبلية هامة عن مصر والعالم العربي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولكن خلطاً آخر وقع بين اسمي إسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم سعد الدين عبد الله، حيث ظن البعض أنهما شقيقان أو أبناء عمومة، لوجود «عبد الله» في نهاية اسم كل منهما، وهو ما لا أساس له بالمرة. لقد كان د. إسماعيل صبري عبد الله صعيدياً من المنيا، بينما كان د. إبراهيم سعد الدين عبد الله بحراوياً من الشرقية. أي لم يكن بين الرجلين رابطة قرابة دموية على الإطلاق، وإن ربطتهما علاقة زمالة وصداقة وكفاح مشتركة، ربما كانت أقوى من علاقة ذوي القربى. فرحم الله الرجلين وألهم ذويهما الصبر والسلوان.