يُحكى أن عدداً من الأتباع والمُعجبين بفيلسوف المادية الجدلية، كارل ماركس، كانوا يُزايدون على بعضهم البعض، إمعاناً في هذا الجانب أو ذاك من نظريته... ثم بدؤوا يُزايدون على ماركس نفسه في نهاية حياته، فكتب مقالاً شهيراً بعنوان "مرض الطفولة اليساري"... نقد فيه مُغالاة أنصاره في تفسير مقولاته... ونزعتهم المرضية لاتهام بعضهم البعض بخيانة أفكاره... أو تحريفها... أو بالعمل لحساب البوليس السري في هذه الدولة أو تلك! ولكن بعض هؤلاء الأدعياء ظلوا على مُمارستهم في المُزايدة، واتهام الآخرين والتشكيك في إخلاصهم أو صفائهم الإيديولوجي.. إلى درجة اضطرت كارل ماركس في نهاية حياته أن يُطلق زفرته الأخيرة... "إنني لم أعد ماركسياً"... إن سبب هذه المقدمة ومناسبة هذا المقال هي ما قرأته في الصُحف أو وصلني بالبريد الإلكتروني مما يُشبه سجالاً بين د. مختار كامل ود. عبد الحليم قنديل، حول دور المصريين بالخارج. وقد بدأت القصة عندما كوّنت تسع منظمات للمصريين بأمريكا الشمالية تآلفاً يحمل هذا الاسم في بداية عام 2009. ويهدف هذا التآلف إلى دعم القضايا المصرية والعربية والإسلامية على الساحة الأمريكية من ناحية، والدعوة إلى الإصلاح الشامل في مصر من ناحية ثانية، وإلى رعاية مصالح الجالية المصرية في أمريكا من ناحية ثالثة. وقد تزامن تأسيس ائتلاف المنظمات المصرية (28 فبراير 2009) مع بداية عهد الرئيس الجديد للولايات المتحدة، باراك أوباما. بل ويقول بعض المُخضرمين إن الرئيس أوباما نفسه هو الذي أوحى لهم بفكرة الائتلاف. فقد نقلوا عنه بعد انتخابه (4/11/2008)، ولكن قبل توليه الرئاسة رسمياً (20/1/2009)، في محفل ضم مجموعات من العالم الثالث، بمن فيهم عرب وأفارقة ومسلمون، بأن من لهم مطالب من الإدارة الجديدة عليهم أن يضغطوا عليه لتلبيتها، ونص العبارة التي استخدمها: (you have to pressure me to make me do it) "عليكم أن تضغطوا عليّ لكي أُلبي ما تطالبون به". وقد يبدو هذا غريباً عن القارئ المصري أو العربي في الوطن الأم، ولكنه ليس غريباً بالمرة عمن يعيشون في أمريكا ويعرفون كيفية إدارة شؤونها السياسية. فلأن نظامهم ديمقراطي مفتوح، فإن السياسات والقرارات تتم طبقاً لمصالح وتوازنات داخلية، بين جماعات عديدة مُتنافسة. والأكثر تنظيماً والأضخم عدداً منها هي التي يستمع إليها الكونغرس والرئيس، حيث إن أعضاءها هم مواطنون من دافعي الضرائب والناخبين. المهم أن المصريين الأمريكيين اجتهدوا، وقاموا بما قاموا به من تأسيس ذلك الائتلاف، وصاغوا مطالبهم من الرئيسين المصري حسني مبارك والأمريكي باراك أوباما، وهي: إنهاء العمل بقوانين الطوارئ، الإفراج عن المُعتقلين السياسيين، رد الاعتبار إلى القضاء واحترام استقلاله، إصدار القانون الموحد لدور العبادة، إلغاء القوانين المُقيدة لتأسيس الأحزاب والجمعيات، وجعل مثل هذا التأسيس بالإخطار فقط، وإطلاق حرية تأسيس وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية والمسموعة، وإلغاء التعديلات الدستورية لسنتي 2005 و2007، بما يجعل الترشيح للمناصب العامة مكفولاً لجميع المواطنين، بما في ذلك الترشيح لرئاسة الجمهورية، وأن تُعقد الانتخابات بكل مستوياتها تحت إشراف القضاء، مع السماح للرقابة المحلية والدولية بالتأكد من نزاهتها. وكما هو واضح فإن هذه المطالب هي نفسها تقريباً التي تطالب بها الحركة الوطنية المصرية منذ سنوات. وحينما سمع الائتلاف بتكوين "الحركة المصرية ضد التوريث" أصدر بياناً بتأييدها على الفور، وعرض الانضمام إليها. وحينما استجابت هذه الأخيرة، ورحّبت بالائتلاف، أصدر د. عبد الحليم قنديل، المنسق العام لحركة كفاية، وهي من مؤسسي الحركة، بياناً يُهدد فيه بالانسحاب، مُعترضاً على قبول زملائه الانضمام إلى الائتلاف، وكان ضمن حيثيات هذا التهديد أن الائتلاف يتكون من منظمات خارج مصر، وأن أحد المُشاركين فيها هو العبد الفقير لله، سعد الدين إبراهيم، وأن رئيس الائتلاف هو المهندس كميل حليم، أحد نشطاء أقباط المهجر، الذين يعتبرهم "د. عبد الحليم قنديل" خونة لمصر، وعُملاء للخارج! وقد قام د. مختار كامل بالرد على ادعاءات أو اتهامات د.عبد الحليم قنديل، في مقال نشرته صحيفة "القدس" اليومية اللندنية، مُدافعاً فيه عن الدور الحيوي الذي يقوم به المصريون في المهجر، ويفنّد مزاعم د.عبد الحليم. ورد هذا الأخير في صحيفة "المصريون" الإلكترونية، نافياً عن نفسه بعض ما فهمه القرّاء. ولكنه تفضل وسمح للمصريين في المهجر وائتلافهم بالانضمام إلى الحركة المصرية ضد التوريث، إن هم تابوا وأنابوا، ولعنوا البلد الذي يعيشون فيه، ويحملون جنسيته، وإن هم طالبوا بإنهاء الاحتلال الأمريكي لمصر والعراق وأفغانستان، وإن هم أدانوا مُجمل السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم، وإن هم أقرّوا بحق المقاومة الفلسطينية في نضالها المُسلح ضد إسرائيل والإمبريالية الأمريكية، وإن هم أدانوا النظام العميل لحسني مبارك... وفقط، بعد أن يفعل ائتلاف المنظمات المصرية كل ما تقدم يمكن للحركة الوطنية ضد التوريث أن تحظى بشرف بقاء "كفاية" ومٌنسقها العام ضمن صفوف الحركة! طبعاً، لا أدري ما إن كانت الحركة المصرية ضد التوريث ستستجيب لمطالب عبد الحليم قنديل، بفرض تلك الشروط على ائتلاف المنظمات المصرية في أمريكا الشمالية، وما إن كان هذا الأخير سيقبل تلك الشروط... ثم يقوم بتنفيذها قبل نهاية القرن الحادي والعشرين، أم سيتركون مُهمة تنفيذها لأبنائهم وأحفادهم، مرضاة للدكتور عبد الحليم قنديل، أو مرضاة لأبنائه وأحفاده! إن ما تفتق عنه ذهن المُنسق العام لحركة كفاية، ويُريد فرضه على زملائه في الحركة المصرية ضد التوريث، ثم من خلال هذه الأخيرة فرضه على ائتلاف المنظمات المصرية في أمريكا الشمالية، ثم من خلال الائتلاف فرضه على الولاياتالمتحدةالأمريكية... هو خطة محبوكة، يمكن أن تؤدي إلى ركوع الإمبريالية الأمريكية عند أقدام المنسق العام لحركة كفاية. ويمكن عندئذ وضع حد للغطرسة الصهيونية، تمهيداً للتخلص من إسرائيل كلية، واستعادة الوطن الفلسطيني السليب، بعد طول انتظار. وهكذا، فيما لم يتجاوز صفحة من المطالب التي صاغها المُنسق العام لحركة كفاية، لن يتوقف ويفشل مُخطط توريث السُلطة في مصر وحسب، ولكن سيتم تحرير مصر من الاحتلال الأمريكي وفلسطين من الاحتلال الصهيوني أيضاً! طبعاً، لا غُبار على ما يحلم به الرجل (عبد الحليم قنديل)، ولا غُبار على ما يُطالب به الآخرين لتحقيق أحلامه. المشكلة هي أن الآخرين الذي يُطالبهم بكل هذا يتساءل بعضهم وماذا فعل هو من أجل تحقيق هذه الأجندة الطموحة؟ ربما لو أفصح الرجل عما قام به، غير النضال الحنجوري، لضرب لهم المثل والقدوة، وأرشدهم إلى الصراط الوطني القومي الاشتراكي المستقيم. ما لم يفعل د. عبد الحليم قنديل ذلك، فسيظل في نظر كثيرين نموذجاً صارخاً لمن وصفهم كارل ماركس في مقاله عن "مرض الطفولة اليساري"... ولكن في الحالة المصرية فهو "مرض الطفولة الناصري". ولو كان عبد الناصر حياً لزايد عليه أمثال د. عبد الحليم قنديل.