تنهال النصائح على حركة الإخوان المسلمين، الفائزة بالنصيب الأكبر من المقاعد البرلمانية في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية (46 في المائة والسلفيون 21 في المائة)، حول كيفية التعاطي مع الأزمات الملحّة التي تواجه البلاد، الاقتصادية منها على وجه الخصوص، وطبيعة العلاقات بدول الجوار العربي، وهي نصائح منطقية مشروعة، تعكس حرصا على نجاح الحركة في ظاهر الأمر، ولكن هدفها الأساسي والجوهري قد يكون مخالفا لذلك تماما. اللافت أن نسبة كبيرة من هذه النصائح تطرح مفهوما بدأ ينتشر في المنطقة العربية في زمن ما قبل الثورات الإصلاحية العربية، يطالب بالابتعاد عن القضية المركزية العربية الأولى، والتركيز على الهموم الداخلية للمواطن العربي، وكأن هناك تناقضا بين المسألتين. فبعد شعار «إيران أولا وفلسطين ثانيا»، بدأنا نرى تطويرا أكثر ذكاء يقول: «الوظائف أولا.. وفلسطين ثانيا»، في إيحاء ملحوظ، أو بالأحرى في «تحريض» لحركة الإخوان المسلمين، بالالتفات كليا إلى هموم الشعب المصري واحتياجاته الآنية، وتكريس انطباع سائد وخاطئ في الوقت نفسه يقول إن الثورات الشعبية العربية انطلقت أساسا بسبب الجوع والحرمان من لقمة العيش، وليس من أجل الكرامة الوطنية والشخصية معا، وفي هذا إهانة كبيرة لهذه الثورات وشهدائها. لا أحد يطالب الأحزاب الفائزة بالانتخابات، في دول انتصر فيها الربيع العربي في إطاحة أنظمة ديكتاتورية، بإعطاء الأولوية للقضية الفلسطينية على حساب مصالح شعوبها التي تعاني من الفقر والبطالة والحرمان من الخدمات الأساسية، ولم يعترض أحد عندما لم يحرق المتظاهرون في ميدان التحرير أو شوارع حمص وحماة ودرعا في سورية والحبيب بورقيبة في تونس أعلامَ إسرائيل وأمريكا لسبب بسيط هو إدراكنا أن هذه الشعوب الشقيقة، التي تطالب بالاحترام والكرامة والحريات الأساسية، لا يمكن أن تبخل بها على أشقائها في الأراضي المحتلة، وهي الشعوب نفسها التي انتفضت غضبا أثناء اجتياح قطاع غزة واحتلال بغداد واحتفلت بانتصار المقاومة في لبنان على العدوان الإسرائيلي عام 2006. ندرك جيدا أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، مثلما ندرك أيضا أن الشعوب المقهورة الجائعة لا يمكن أن تحرر أرضا أو تستعيد مقدسات، ولكننا لا نريد أن تنتقل ثقافة الاستسلام التي سادت المنطقة، بفضل خنوع أنظمة الاستبداد لأمريكا وإسرائيل، طوال السنوات الأربعين الماضية، إلى مرحلة ما بعد الربيع العربي من خلال فتاوى تبطن ما لا تظهر. بمعنى آخر، نقول إن تخلف العرب، وجوع معظمهم، وازدياد نسبة البطالة في صفوف الشباب، لم تكن مطلقا بسبب انخراط الأنظمة في حروب ضد الإذلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية، وإنما بسبب الفساد وغياب العدالة الاجتماعية والسياسية والتوزيع العادل للثروة، فمصر حسني مبارك لم تخض أي حرب ضد إسرائيل على مدى أربعين عاما، وكذلك المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وفوقها سورية الممانعة؛ وعدم الالتفات إلى قضية فلسطين ومهادنة الاحتلال الإسرائيلي، بل والتطبيع معه، لم يمنع وصول البطالة في أوساط الشباب السعودي إلى أكثر من 25 في المائة، رغم دخل سنوي من عوائد النفط في حدود 300 مليار دولار، ومعيشة أكثر من 40 مليون مصري تحت خط الفقر، أي أقل من دولارين يوميا؛ فقضية فلسطين ومقدساتها لم تكن سببا في أزمات الأمة، بل إن هذه الأزمات تفاقمت عندما تم التخلي عنها، وإثر انتشار دعوات قطرية. وهذه الدعوات التي رددها ليبراليون وبعض المحسوبين على اليسار كانت من أسباب تراجع حظوظهم الانتخابية والشعبية وتقدم حظوظ الإسلام السياسي الذي ظل متمسكا بعقيدته الإسلامية الأممية، ورافضا الاتفاقات مع الإسرائيليين. الخوف المتنامي من خطر وصول الإسلام السياسي إلى السلطة بفضل صناديق الاقتراع في أكثر من دولة نجح فيها الربيع العربي وأعطى ثماره الديمقراطية، ومصر على وجه الخصوص، ليس عائدا إلى الحرص على الديمقراطية والحريات الشخصية، وهو حرص مشروع ومقدر، وإنما على إسرائيل واستمرارها قوية نووية متفوقة؛ فهذه الحريات كانت مقموعة في زمن أنظمة الطغيان المدعومة من الغرب بالمال واتفاقات الحماية الأمنية، ولم نر هذا الغرب الليبرالي يطالب بها، بل رأيناه يدعم قمعها، ويحظى بتأييد رهط من الكتاب والمنظرين. لا نتردد لحظة في الوقوف في خندق الثورات العربية جميعا دون أي استثناء، وتقديم الكرامة الشخصية والحريات الديمقراطية على كل القضايا الأخرى «مؤقتا»، بما في ذلك فلسطين، فالشعوب المقهورة المحكومة بالشبيحة والحديد والنار والإرهاب، لا يمكن أن تنصر قضاياها العربية وتنتصر في الحروب ضد الأعداء، ولكننا نعارض بشدة محاولات الفصل «الخبيثة» بين الكرامة الشخصية والكرامة الوطنية القومية والإسلامية، تحت مسميات وأعذار مختلفة. الإسلام السياسي حقق فوزا كاسحا في جميع انتخابات الربيع العربي دون أي استثناء (تونس، مصر، والمغرب)، ليس لأنه يملك تجربة ثرية في الحكم وإدارة شؤون الدولة، وقادته خبراء في الاقتصاد والتنمية وكيفية مكافحة البطالة وخلق الوظائف، وإنما لأنه كان الأكثر معاناة بسبب مقاومته للطغاة، اعتقالا وتعذيبا وقتلا، والتصاقا بالقاعدة الشعبية العريضة وتفهما لمطالبها واحتياجاتها ومعايشة لإحباطاتها المعيشية، والأهم من كل ذلك عدم الفصل بين الهموم المعيشية الداخلية للمواطن، والقضايا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية الصراع العربي الإسرائيلي وضرورة دعم مفهوم المقاومة بأشكالها كافة. هذا لا يعني أن أحزابا أخرى غير إسلامية لا تتبنى القضايا العادلة ولا تتفهم معاناة المواطن، ولكن الخلل الكبير الذي وقعت فيه هذه الأحزاب والتيارات هو نخبويتها وانحصارها في المدن ومهادنة بعضها لأنظمة الطغاة، تحت لافتة إمكانية الإصلاح، والابتعاد عن العمق الشعبي في الأرياف حيث المعاناة الحقيقية، والتركيز على الفضائيات كبديل عن الاتصال المباشر بالمستودع والمخزون البشري الحقيقي. طالما أننا نعيش موسم توجيه النصائح إلى الإسلام السياسي من كل الجهات، ولأسباب متعددة، نرى لزاما علينا أن ندلي بدلونا، ونعرب عن تمنياتنا بألا ينسوا، وهم الذين ينعمون حاليا بنشوة انتصار نأمل أن تطول، ألا يبخلوا على أشقائهم بنعم الحريات والكرامة التي حققتها شعوبهم، بفضل تضحيات غالية عمادها الدم والأرواح. ونفصح أكثر بالقول إن على المتمتعين بثمار الربيع العربي وإزهاره أن يمدوا يد العون والمساندة إلى كل البلدان الأخرى التي لم تصلها بعد شرارة الانتفاضات، خاصة في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، فشعوب هذه البلدان تعاني قهرا من نوع آخر ولا تقل تعطشا للحريات الديمقراطية والكرامة الإنسانية.. صحيح أن أنظمتها أقل قمعا وأمعاءُ معظمها مليئة بالطعام الطيب بفضل عوائد نفطية هائلة لشعوب قليلة العدد، ولكن هناك جوعا من نوع آخر، جوع للكرامة والديمقراطية والمشاركة السياسية، والعدالة الاجتماعية، والقضاء العادل المستقل والشفافية، مثل جميع الشعوب الأخرى. في هذه الدول تحرك شعبي يواجه القمع والتشكيك، ويطالب بالإصلاح، أو الحد الأدنى منه، يجب أن يحظى بالدعم والمساندة بغض النظر عن المذهب الديني لأبنائه والمشاركين فيه، ونتمنى على الشيخ يوسف القرضاوي، الذي ناصر الثورات الشعبية في سورية وليبيا واليمن ومصر، أن يبادر إلى إصدار فتوى مماثلة لفتاواه بشرعية تحرك هؤلاء والحث على نصرتهم أيضا، فهم ليسوا في معظمهم عملاء لإيران، ولا غالبيتهم من أنصار ومؤيدي تنظيم «القاعدة»، الفزّاعتان اللتان تستخدمان حاليا لتشويه صورتهم من قبل البعض، فهؤلاء طلاب حرية وعدالة ومساواة مثل غيرهم من الشعوب العربية المنتفضة. الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي، أنصف العلماء السنة ومؤسستهم الدينية، بل والإسلام السياسي عندما كان من أوائل من رفع صوته، ومن قلب واشنطن، معلقا الجرس، ومطالبا بالديمقراطية والحريات في دول مسكوت عنها، وأشار بإصبعه، بكل جرأة وشجاعة، إلى المملكة العربية السعودية، وهي شجاعة تحسب له في وقت يلوذ فيه الكثيرون بالصمت. ختاما نقول إنه لا كرامة لربيع عربي لا يضع القدسالمحتلة المهانة المذلولة، قبلة المسلمين جميعا ووقفهم، ولا نقول فلسطين، على قمة أولوياته، فالقدس أولا وثانيا وعاشرا، بل هي أولى من رغيف الخبز والوظائف بالنسبة إلى كل عربي ومسلم وإنسان، وليس هناك ما يمنع أو يتعارض مع الاستعداد الجيد وملء البطون قبل الالتفات إلى فرض استعادتها وتحريرها.