من منّا لم يشاهد الفيلم المصري الشهير (كراكون في الشارع) للممثليَن الكبيرَين عادل إمام ويسرا الذي اُنتج في الثمانينيات من القرن الماضي، وأفلاماً أخرى كثيرة شبيهة تناقش مشاكل السكن والجوع والفقر والبطالة، وفيلم (حين ميسرة) الذي اُنتج قبل ثلاثة أعوام، حيث يصور الواقع المرير والفقر المدقع للغالبية العظمى من الشعب المصري، وانعكاساته الاجتماعية والاقتصادية على النساء والأطفال والشباب في هذا العصر، إلاّ أن واقع الأمر أن هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها مصر ودول عربية أخرى، هي مشاكل قديمة جديدة قائمة على مرّ السنين، وأن الشعب العربي المصري على تنوع فئاته وطبقاته، لم يهبّ كمثل هذه الهبّة التاريخية منذ عقود لتغيير هذا الواقع الأليم، مع العلم بأن االمطالبات والنداءات بالتغيير كانت جارية منذ زمن طويل لكنها لم تجد صدىً لها إلا في هذا الوقت بالذات! ذلك مع الإدراك التام أن الشعوب الحرة هي صاحبة الحق الأول في التعبير عن مطالبها والتغيير الديمقراطي الذي يحقق حريتها ويجري التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحمي مصالحها، ويضمن لها حياة كريمة يضعها في مقدمة الشعوب، شعوب لا تقبل بنظام التوريث والخلافة في هذا العصر، ولا تقبل بالفساد وتكبيل االحريات العامة للشعوب. فهل فجرت (ثورة الياسمين) "غير المتوقعة" في تونس مشاعر الشعب المصري وشجعته على هبّته "المتوقعة" في مصر ضد الفقر والجوع والبطالة وغيرها؟ وهل شجعت المتآمرين المتربصين بخيرات البلاد الشروع في مخطط تشريح المنطقة وإعادة صياغتها على الهوى الأمريكي الإسرائيلي؟ إن مُحيكي الانقلابات الدموية في المنطقة لصالح القوى الاستعمارية وعملائها، بدأوا العمل محاولين تمزيق المنطقة بإدعاء تأييدهم لمطالب هذه الشعوب في الوقت الذي كرّسوا فيه وجود هؤلاء الحكام، ويبدو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية هذه المرّة قد تعلمت درساً في تدخلها المباشر في العراق وافغانستان، ولم تترك الخيار لشعبَي هذين البلدين لمواجهة حكامهما وتقرير مستقبلهما، فأمريكا كالمؤمن القوي لا يٌلدغ من الجحر ذاته مرتين، فقادت، بالاتفاق مع إسرائيل وعملائها في المنطقة، الحملة المشبوهة والمؤامرة المفضوحة ضد السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير والشعب الفلسطيني من خلال قطر (العظمى) التي تمتد جغرافياً على أجنحة أعظم الطائرات الحربية الأمريكية التي تتجسس على الشعوب العربية والتي حمت أجواء أسرائيل إبّان حربها الهمجية على قطاع غزة، وبعد أن فشلت فشلها الذريع في تمرير انقلاب آخر على الشرعية الفلسطينية، أعطت الأوامر بقلب النظام في مصر "قلب الشرق الأوسط" ولكن على أيدي الشباب والشعب المصري أنفسهم (أي باستخدام الشعوب لقلب الأنظمة دون الدخول في وحل العنف والحروب والانقلابات السوداء). فقد أمتطت الولاياتالمتحدةالأمريكية صهوة تحالفٍ يهدف إلى إسقاط الرئيس حسني مبارك من خلال إقامة مظاهرات واحتجاجات شعبية ذات طابع حضاري، ولها مطالب تتعلق بالاصلاح الاجتماعي والاقتصادي، لتنقلب فجأة الاحتجاجات السلمية إلى مطالبات صريحة بقلب النظام، ولتندس في هذه المظاهرات أيدٍ "ليست بخقية" كما يُشاع، تخرب وتثيرالرعب وتحمل السلاح، وتهاجم مقرات الأمن وتقتل الشرطة، وتدمر الممتلكات الخاصة والعامة، وتعبث بإرث وحضارة وتاريخ وعراقة مصر. في الوقت الذي تذبح فيه إسرائيل وقواتها العسكرية ومستوطنوها أبناء الشعب الفلسطيني، وتغتصب أرضه في القدس والضفة الغربية، وتقتل يومياً الأطفال وتعتقل الشبان ذكوراً وإناثاً، وتحرق مزروعاته وشجر زيتونه، وتنسف بيوته يومياً، وتنتهك حريته على الحواجز، وتستمر في بناء جدارالفصل العنصري، وتتنكر لحقوقه الوطنية المشروعة التي أقرّتها الشرعية الدولية وحقوق الإنسان، وتضرب بعرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية، تخرج الادارة الأمريكية (الديمقراطية) للإعلان عن مطالبها الاستفزازية وبعث رسائلها العاجلة إلى الرئيس المصري، وتطالبه على لسان وزيرة خارجيتها "هيلاري كلينتون" بوقف العنف! وب (التغيير والإصلاح)، ويذكّرنا ذلك بشعار وبرنامج (حماس الانقلابية) الذي استخدمته للقضاء على المشروع الوطني الفلسطيني، وتبعها الناطق باسم البيت البيضاوي "روبرت غيبس" بساعات قليلة معلناً قطع المساعدات، وأخيراً يعلن الرئيس الأمريكي "بنفسه" بأنهم يطالبون بالتغيير السياسي واصلاحات جذرية!!! وأن الإصلاحات الحالية لا تفي بالغرض.... ما قد يقود إلى تغيير النظام المصري. لقد فشلت كل من أمريكا وإسرائيل وعملائهما في المنطقة في الضغط على السلطة الوطنية للتنازل عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وبدت إسرائيل في أضعف حالاتها السياسية وعزلتها الدولية، وبدت السلطة في أقوى حالاتها السياسية لقراءتها الجيدة للواقع الدولي، وحظيت باجماع دولي وآخر عربي تقوده دولة مصر الشقيقة، حيث تعي أمريكا وإسرائيل أن مصر هي لاعب رئيسي وقوي في دعم القضية الفلسطينية، فعملت على تقويض واسقاط الورقة المصرية من أيدي الفلسطينيين. إن ما يحدث الآن في مصر هو تنفيذ للمخطط الاستعماري القاضي إلى تجزئة العالم العربي، تُغذّيه تربة خصبة للتغلغل الإسلامي المتطرف الذي تعمل أمريكا على احتوائه، والذي استغل فقر وجهل الفئات الاجتماعية البسيطة غير المُسيّسة ، وزاد من نقمتها، وقد ساعد على تفشّيه ونموّه القنوات الفضائية (الناطق الرسمي باسم أمريكا واسرائيل وعملائهما) كالجزيرة وغيرها، لماذا لم تقف الولاياتالمتحدةالأمريكية مع مصر التي تعتبرها من المحور "المعتدل"، وتنصحها مبكراً بالاستجابة إلى مطالب الشعب وحقوقه الأساسية؟ في المحصلة، فإن المعركة التي تخوضها الشعوب بدمائها تعمل أميركا على أن تصب في خدمة المخطط الأمريكي الإسرائيلي الشامل على حرب أمريكية إسرائيلية شاملة على المنطقة لتطويع هذه الأنظمة لخدمتهما، وقد بدأت بتقسيم العراق والسودان ولبنان وفلسطين وتمرّ الأن بمصر، وان نجحت تنتهي بخلق شرق أوسط جديد مقسم أعلنت عنه الإدارة الأمريكية السابقة وماضية به الإدارة الأمريكية الحالية. هذا المخطط الذي نبّه له الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات من خلال خطابه الموجّه لمؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002 (الذي تم مقاطعته به) ونوّه بأن العرب سيأتي دورهم واحداً تلو الآخر، محذرّا من سايكس بيكو جديد.