محمد أحداد شاءت الصدف أن تتزامن ولادة فؤاد عالي الهمة مع ظرفية حساسة من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال: بداية الستينيات بكل تناقضاتها، واحتدام الصراع على السلطة بين حزب الاستقلال من جهة والقصر من جهة ثانية. تفتقت عبقرية الفتى مبكرا، ولأنه ابن الرحامنة، المنطقة التي تمنعت على المخزن طويلا، وقع عليه الاختيار ليرافق الملك محمد السادس في المعهد المولوي. عرف الرجل منذ بداياته الأولى بقربه من ولي العهد، آنذاك، سيدي محمد. قرب فهمه الرجل على نحو ما، فاستفرغ جهده لدراسة نظريات السياسة، إذ أدرك من الوهلة الأولى كما يوحي بذلك مساره أن المغرب صار لفترة تاريخية معينة مدرسة خصبة لتكوين نخبة من الميكيافيلين، فانخرط في اللعبة واقترب منها لتصقله بالمفهوم الأصيل للسياسة عند الملك الراحل الحسن الثاني. التحق الهمة بعد نيله دبلوم الدراسات العليا في مجالي العلوم السياسية والإدارة بوزارة الداخلية التي قضى بها أكثر من تسع سنوات. كانت كل المؤشرات وقتئذ توحي بأن الدولة وضعت في مخيلتها أنها تهيئه للمرحلة المقبلة. كان يومها إدريس البصري ممسكا بتلابيب وزارة الداخلية، ولا ريب أنه علم «إدريس الهمة»، كما كتب أحد أعضاء المستشارين يوما، الكثير من ألغاز وزارة الداخلية، ودربه كيف يصير كاتم أسرار وكيف يروض أصدقاء الأمس ويحتوي أعداء اليوم. تكونت لدى الرجل رؤية شاملة عن تسيير البلاد، وتعلم أن البلاد التي كانت تسير في مرحلة تاريخية بعينها إلى «السكتة القلبية» يمكن أن تقوم بكل شيء في سبيل استمرارها وإلا كيف يمكن أن نفهم أن الدولة استطاعت على امتداد عقود أن تتحكم في أبرز معارضيها. آثر فؤاد عالي الهمة بعد أن أنهى مشواره التدريبي في وزارة الداخلية أن يدخل غمار الانتخابات البلدية سنة 1992، ليصبح إثر ذلك رئيسا لبلدية ابن جرير. التصق اسم الهمة بالرحامنة، وصار يشار إليه بالبنان عند تعيينه مديرا لديوان محمد بن الحسن أن الحسن الثاني ألقى فيه مقومات رجل السياسة القادر على تدبير مرحلة الانتقال السلس للسلطة من الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس. بطبيعة الحال، لم يكن الهمة ليغفل الدخول إلى قبة البرلمان، إذ أصبح نائبا برلمانيا باسم حزب عجنته الإدارة وهو حزب الأصالة والمعاصرة. توقف الزمن السياسي المغربي قليلا في يوم مشهود من تاريخ المملكة الشريفة. وسائل الإعلام المغربية تعلن نبأ وفاة الملك الحسن الثاني، وبذلك، بدأت حسابات مرحلة جديدة مدموغة بسمات عديدة: ملك جديد وتركة ثقيلة ورجال أقوياء في مملكة الحسن الثاني ووضعية اقتصادية تقترب من السكتة القلبية. في فورة كل ذلك، لم يجد محمد السادس الملك الشاب بدا من تعيين الهمة في وزارة حساسة هي وزارة الداخلية. طبعا، فهم فؤاد عالي الهمة أن الخبرة الطويلة التي راكمها إدريس البصري في التنكيل بمعارضيه لم تعد تتلاءم مع طبيعة المرحلة، سيما أن الملك الشاب بعث بإشارات قوية تحمل في طياتها أنه يريد أن يقطع مع ممارسات الأمس، ولا أدل على ذلك أنه تخلص من إدريس البصري بكيفية طرحت الكثير من علامات الاستفهام وقتها. في هذه الظرفية بالذات، تنامى نفوذ الإسلاميين وتقوت شوكتهم في الشارع. نفوذ جعل الهمة، الذي كان على رأس أم الوزارات، يضيق الخناق عليهم ويشن حربا بلا هوادة على ما كان يسمى يومئذ بالإسلام المتطرف. خناق تغذى بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، التي أعلنت مرحلة جديدة في التعامل مع الإسلاميين. لا تخفي بعض التيارات أن الهمة نفسه هو الذي هندس فصول قانون الإرهاب بعد هجمات 16 ماي بالدار البيضاء، الذي بموجبه اعتقل العشرات من المشتبه فيهم بالانتماء إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة. اعتبر تدبير ملف المعتقلين الإسلاميين بعد هجمات 16 ماي من طرف الهمة نكوصا عاد بالمغرب إلى سنوات شبيهة بأيام سنوات الرصاص. خرجت الجماعات الإسلامية عن صمتها لتوجه انتقادات لاذعة إلى وزارة الداخلية بزعامة ابن الرحامنة. ومع ذلك، واصل الهمة مشواره في وزارة الداخلية، وكان على أجهزة الداخلية العتيدة بكل أطيافها أن تعالج ملفا ثقيلا بدا كأنه يشكل مشكلة حقيقية أمام استقرار المغرب السياسي، فانتهجت الداخلية في عهد إدريس جطو منحى جديدا يطبعه التخوف من تقارير المنظمات الحقوقية التي عادت الهمة خلال توليه مسؤولية أم الوزارات. فاجأ فؤاد عالي الهمة الجميع حين طالب الملك بإعفائه من وزارة الداخلية، وأبدى الكل توجسه من أن يكلف الهمة بمهمة جديدة تسير في اتجاه تقليم أظافر الإسلاميين والحد من تنامي نفوذهم. البداية كانت من تشكيل «حركة لكل الديمقراطيين»، التي ضمت بين ثناياها ثلة من السياسيين والمثقفين، في مقدمتهم إلياس العماري وصلاح والوديع وآخرين ممن طالتهم عصا السلطة الغليظة أيام كان اليسار يزعج الحسن الثاني. أصر الهمة في كل خرجاته أن الحركة لن تتحول مهما كان الأمر إلى حزب سياسي. لكن الرجل لم يخف نواياه منذ البداية إذ أقر بأنه جاء بمشروع حداثي يجنب المغرب خطر الإسلاميين. لكن سرعان ما تبددت تطمينات الهمة بعدم إنشاء حزب سياسي، حين ترشح بالرحامنة وحصد كل مقاعدها البرلمانية، ليكون ذلك إيذانا بتشكيل فريق برلماني باسم الأصالة والمعاصرة، ثم تحول الفريق إلى حزب سياسي يحج إليه البرلمانيون من كل فج عميق. تمكن «الجرار» في ظرف وجيز أن يفصل الخريطة السياسية المغربية على مقاسه والهدف المستتر/ المعلن ظل دائما مواجهة الإسلاميين، وفي مقدمتهم حزب العدالة والتنمية. استعر السجال والصراع بين حزبي الأصالة والمعاصرة والعدالة التنمية ووصل إلى حد التراشق الإعلامي على صفحات الجرائد، وسخر حزب العدالة والتنمية كل وسائله لمواجهة حزب اعتبره مسنودا من السلطة و«يشتغل وفق أجندة مدروسة». جرت مياه كثيرة تحت جسر المغرب السياسي وجرت كذلك الرياح بما لم يشتهه شراع فؤاد عالي الهمة، إذ استيقظ الغضب في نفوس الشعوب العربية وأسقطت أنظمة سياسية كثيرة وباتت أخرى مهددة بالزوال، ثم ما فتئت حركة 20 فبراير أن نزلت إلى الشارع لتحمل شعارات منددة ب«الوافد الجديد» ومطالبة برحيل الهمة. توارى الرجل، الذي راكم تجربة طويلة في إدارة الأزمات، عن الأنظار واعتزل الأضواء، واستل العدالة والتنمية أسلحته ليدق مسمارا آخر في نعش الرجل السياسي. هكذا استقال الهمة من رئاسة لجنتي الانتخابات والتتبع بالحزب. وفي غمرة هذا الغبار الكثيف، تداخلت التكهنات حول مستقبل عالي الهمة، ليأتي تعيينه من طرف الملك مستشارا في الديوان الملكي مثل صدمة ثقيلة ربما لم يستوعبها حزب العدالة والتنمية، الذي على ما يبدو لم ينتش كثيرا باكتساحه الساحة السياسية، فرغم تطمينات قادته من عدم إمكانية عودته إلى هندسة المشهد السياسي، فإن تخوفات تساور الكثيرين من أن يكون فؤاد عالي الهمة خرج من الباب ليعود من النافذة.