حين يخرج عن هذا المبدأ الفردي إلى حلقات ومأدبات وطقوس واحتفالات مقنعة بطابع ديني وبيانات سياسية وحشد للمريدين وغير المريدين في مسيرات سياسية، يصير شيئا آخر غير التصوف. نحن هنا أمام تنظيم أقرب إلى الحزب منه إلى طريقة صوفية، فهو يملك قنوات للاستقطاب وأخرى للتأثير على الشأن السياسي وأموالا تأتيه من مريديه وممّن لهم مصلحة في أن تظل الزاوية خادمة للأجهزة الحاكمة، خصوصا حين يكون وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية من أشهر مريدي الزاوية. إننا في هذه الظروف التاريخية الحاسمة التي يمر منها العالم العربي، لا يمكن للمثقف المغربي الغيور على تطلعات الشعب إلى بناء دولة ديمقراطية أن يستمر في التفرج على ظاهرة الاستغلال الديني لأغراض سياسية. والحقيقة أن سكوت النخبة المثقفة عن دور الزوايا في خدمة المخزن أو تجنبها الخوض في الموضوع مرده إلى سببين رئيسيين: أولهما أن العديد من المثقفين الذين كرسوا أسماءهم في الحقل الأدبي والفكري أو الممسكين ببعض خيوط السلطة في وزارات عديدة هم من مريدي هذه الزوايا، وهو ما يلجم أفواه وأقلام المثقفين المحيطين بهم، خاصة في خضم ما تشهده الساحة الثقافية المغربية من فساد، وذلك إما طمعا في جوائز ومناصب أو فقط من باب الإحساس بالإحراج أمام أصدقائهم من مريدي الزاوية؛ وثانيهما أن خطاب الزاوية السياسي الديني نجح في تطويع لغته مع الخطاب الحداثي ليبدو بمظهر الخطاب الإنسانوي، مما جعل العديد من الأسماء المعروفة فنيا وفكريا في العالم تنضم إلى الزاوية البوتشيشية وتشكل بوقا دعائيا مفاده أن الزاوية لا تهدف سوى إلى تعزيز المضمون الروحي للإسلام. وبسبب تصاعد التيارات الإسلامية المتطرفة في العالم، أصبح خطاب الزاوية «الصوفي» ملاذا للعديد من الأفراد المنحدرين في الغالب من البورجوازية أو البورجوازية الصغيرة في المغرب وخارج المغرب، وهو ما يفسر أيضا التشجيع الذي يلاقيه هذا الخطاب في الغرب، وخاصة في فرنسا، حيث تقام العديد من حلقات الذكر يتم خلالها استقطاب العديد من الرموز الفنية والفكرية، ذلك أن خطاب الزاوية «الصوفي» و«الإنسانوي» و«الروحي» يخدم أيضا إيديولوجيا الحكومات الأوربية، ليس في مناهضتها للتطرف الديني فحسب وإنما أيضا في تملصها مما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية لأبناء المهاجرين المسلمين وخشيتها من اندلاع انتفاضات على غرار تلك التي اندلعت سنة 2005. إن خطاب الصوفية الذي أضحى خطابا «حداثيا» أو خطاب موضة في أوربا وأمريكا، مُؤدّاه أن الحل لمعضلات المجتمع من فساد وبطالة وفوارق طبقية وتحكّم أسواق البورصة في مصير الشعوب، يكمن فقط في تكريس قيم الإخاء والحب والسلم والتعاون بين الأفراد. ولقد لاحظنا كيف تم استغلال هذا الخطاب من طرف السلطة الإعلامية الفرنسية إبان انتفاضات الضواحي سنة 2005 عبر استضافة مغني الراب عبد الملك الذي يتحدث كإمام حداثي، داعيا إلى قيم الحب والأخوة والسلم دون أن يفوته التنويه بدور شيخه حمزة في إنارة طريقه وإخراجه من الظلمات إلى النور؛ وهو خطاب يروق كثيرا للسلطة الإعلامية والسياسية في فرنسا لأنه لا يشير أبدا إلى الأسباب الاجتماعية والسياسية لتلك الانتفاضات ولا إلى تذمر شباب الضواحي من خطابات ساركوزي الاستفزازية التي عززت حملته الانتخابية وأفضت به إلى قصر الإليزيه سنة 2007. الانتخابات التشريعية في المغرب على الأبواب. وما دامت الزاوية قد عبرت علنا، خطابا وممارسة، عن مساندتها للدستور الجديد، فيهمنا أن نعرف لصالح أي حزب ستتحرك الزاوية هذه المرة وتحشد مريديها مجددا، وما إذا كانت المساجد ستتحول ثانية إلى بوق دعائي انتخابي كما حصل إبان حملة الاستفتاء على الدستور أم إن الزاوية ستعود إلى ممارسة التقية السياسية خلف لافتة التصوف والمحبة وتصفية القلوب.