يستحضر كبار السن بالأطلس المتوسط عوالم رمضان بالكثير من الحنين، ليس لأن إيمان الناس زاد أو قل، ولكن لأن أشياء كثيرة كانت تؤثث أيام الصيام والاستعداد لها وصيغ توديعها صارت جزءا من الذاكرة، وهذا ما قد ينطبق على باقي جهات المغرب، خاصة أن النمذجة المجتمعية وصيغ الحياة تدفع الناس في المجتمع نحو نمط واحد من المعيش قد لا يختلف فيه أهل الأطلس عن أهل الشمال أو الجنوب. «رمضان كان عزيز وباقي عند كل واحد، ولكن شلا حوايج غيرهم الزمان»، هكذا لخص حفتي محمد من تيغسالين موقفه من عوالم رمضان بين الأمس واليوم. حفتي شاعر شعبي لم تسعفه ذاكرته في استحضار أبيات أو ارتجالها حول رمضان وطقوسه، لكن أسعفته في ترديد الكثير من أقوال «الصالحين» حول الوقت، والصدق، وأهمية القيم الدينية. وبنظره، ما قد يكون غاب إلى غير رجعة هو «حميمية جلسات الناس في رمضان، وصدق الإيمان والعلاقات الإنسانية، وحين يغيب الجوهر، حسبه، تتبدل كل الأحوال الأخرى، وهذا ما يحصل بالنسبة إلى كل ما يرتبط بالتقاليد والطقوس المؤثثة لعوالم الصيام». سحر البساطة حياة الناس بالأطلس كانت بسيطة، وهذا ما استدعى أن تكون أيام الصيام كذلك، فلم يكن هناك استعداد كبير بغاية توفير احتياجات خاصة لهذا الشهر كما هو الآن، وما كان يوجد في البيت يكفي لتدبير أيام الصيام، هذه التي لم تكن تحددها إلا الرؤية المباشرة للهلال أو طلقة بارود قائد الاستعمار أيام زمان. فلا جهاز راديو هناك ولا أداة أخرى لمعرفة بداية شهر رمضان، حسب أحد شيوخ تيغسالين، غير الاستعداد للصوم بأخذ وجبة السحور والبقاء بدون أكل في الصباح، فإن سمع طلقة بارود فالوقت صيام وعليه أن يستمر في صيامه، وإن لم يحصل يعرف أن رمضان في اليوم الموالي ويستمر في حياته الطبيعية، وهذا ما كان يحصل حتى بالنسبة إلى توديع رمضان، فبارود القايد هو المحدد لدخول رمضان أو حلول عيد الفطر. وجبات رمضان عند أهل الأطلس كانت محصورة في الفطور عند أذان المغرب، والتسحر، وكان وقت السحور يضبط منذ الغالبية من البدو بصياح الديكة. فالصيحة الأولى تعني بداية الأكل، ونفس الشيء تؤكده الصيحة الثانية، أما الصيحة الثالثة لديك فتعني الدخول في المحرم، وللتدقيق أكثر كان ينظر إلى موقع بعض النجوم وتسمى «تمعضيت» التي ليست إلا الثريا، حيث يسمح النظر إلى وصفها في السماء بالحسم في طلوع الفجر أو عدمه. فطور رمضان عند أبناء الأطلس كان يتشكل من خبز الشعير وحريرة خاصة من عناصر الخضراوات والقطاني المحلية، خاصة اللفت والجزر والفول، «أما الحموص فشيء طارئ على حريرتنا»، تقول للافطيمة وهي تتحدث عن خصوصيات أكل الإنسان الأمازيغي. الغالبية لم يكن بإمكانها توفير السكر والشاي في السابق، لهذا غاب عن مائدة الإفطار، لكنه حين دخل عوالمنا أصبح هو المكون الأساسي في وجبات بسيطة إلى جانب الحريرة المحلية في الكثير من المناطق الجبلية. بعد الفطور ليست هناك أية وجبة أخرى إلى أن يحل وقت السحور، حيث على المرأة إعداده بعد أن تستيقظ أولا، وكانت هذه الوجبة شبه موحدة بين الناس وتتمثل في المخمر أو التريت بالتسمية المحلية، الذي يهيأ بالدقيق والسمن البلدي ويدهن بالعسل الحر لمن توفر عنده. قد تحضر الألبان أيضا في الوجبتين، لكن الأساسي هو أن وجبات غالبية الناس تتشابه ولا تتغير في كل رمضان إلا عند بعض الميسورين أو في ليلتين خاصتين هما: الوزيعت: هي ليلة نصف شهر رمضان، وتتميز أساسا بتغيير وجبات الناس، لأن الناس تشترك في الذبيحة التي يتم اقتسام لحمها مقابل قدر مالي لكل واحد، إنها «الوزيعة»، ومن اسم الذبيحة وقسط اللحم جاءت تسمية الوزيعت. الفضيلة: والمقصود بها ليلة القدر، ويتدبر الناس غالبا أمر تغيير وجبة السحور بذبح ديك أو قسط الوزيعة، وفي كلا الليلتين ينتظر الجميع نصيبه من وجبة السحور خاصة الأطفال الذين يعملون المستحيل لإقناع الكبار بإشراكهم في وجبة السحور في أيام رمضان، لكن في الوزيعت والفضيلة قد يلزمون بذلك، خاصة أن مجموعة منهم تجرب قدرتها على الصوم لنصف اليوم أو الفترة الصباحية في المناسبتين. وإذا كانت الحريرة بالخضر من المكونات الرئيسية لفطور أهل زيان، فإن الثابت في فطور أهل قصيبة موحا وسعيد هو «هَرْبَرْ». إنه حساء يصنع من القمح أو الشعير يقال إنه يريح المعدة، والطارئ المهم على مائدة إفطار أهل القصيبة وحتى أهل زيان هو السمك هذا الذي لم يكن يعني شيئا كبيرا في تغذية الأمازيغيين بالنسبة إلى عبد الكريم مسلم، لا في رمضان ولا في باقي أيام الله، بل لقد كان عيبا أن تشتري السمك الذي كان ينعت ب«إبّوخا» أي الحشرات. حميمية الأجواء في الماضي حميمية العلاقات الاجتماعية كانت تتأكد أكثر في رمضان عند أهل الأطلس، والوزيعة كانت تعني هذا، كما كانت تعنيه أشياء أخرى عديدة منها جلسة الصينية بعد الفطور وأداء الصلاة، حيث كان الجميع يلتف حول صينية العائلة. حسب فطيمة، هذه اللحظة الآن غابت وغاب معها التواصل الجميل بين أبناء العائلة والذي عوض ذلك هو مسلسلات وبرامج التلفزة بالنسبة إلى النساء ومن يلازم البيت، وفضاء المقهى بالنسبة إلى غالبية الرجال في المدن أو المراكز الحضرية. الحميمية أيضا كانت تنسج عبر نسيج خيمة الفقيه التي كانت تتكلف بها العائلات الكبيرة أو أبناء العظم الواحد. فكل عظم كان يتكلف بنسج خيمة الفقيه يستقر بها طيلة شهر كامل قرب بيت الشخص الذي سيتكفل به وبتغذيته. وما يسري على الفقيه في رمضان يسري عليه في بقية شهور السنة، أما الدواوير التي لم تكن تستطيع أن توفر فقيها طيلة الشهر، فكانت تتعاقد معه في الأيام المقدسة بغاية إقامة الصلاة خاصة في ليلة القدر. الحميمية أيضا كانت تنتعش أكثر من خلال تشارك الجيران في الاحتفال بالصيام الأول للطفل، حيث يوضع فوق سلم ويعطى له الحليب والتمر وتجمع له سبع بيضات من عند الجيران ليكون سخيا وكريما في كبره ولتشجيعه على الصيام. الصلاة في ليلة القدر كانت صيغة مهمة لتقوية الحميمية بين الناس، وهكذا كان كل واحد من القبيلة يأتي إلى المسجد الذي قد يكون عبارة عن خيمة فقط، مصحوبا بمساهمته في عشاء الليلة، لأن الناس بعد أن تصلي تأخذ وجبة جماعية قبل مغادرة المكان، وسيكون للصيد نفس المعنى بل أكثر، ومن أطرف الأشياء التي تحكيها السيدة رقية من خنيفرة هو أن زكاة الفطر كانت تعاش كقلق عند الرحل أساسا، لأنهم حين يصومون في خيامهم بعيدا عن المنازل ويحل العيد كانوا يرتبكون لأنهم لا يملكون ما يخرجون به هذه الزكاة، لهذا كانوا يقومون بعملية «الرهن»، وهي أن يضع رب العائلة شيئا له قيمة كبرى في الحياة في مكان معين مثل الفأس مثلا أو المصباح الغازي أو آنية الطهي... ويعلق أنها مرهونة ولا أحد بإمكانه أن يحركها من مكانها أو يلمسها مهما كان الاحتياج كبيرا إليها، ثم يذهب لاحقا إلى بلدته حيث يوجد خزين الحبوب ويخرج زكاة الفطر، وبعد ذلك يطلق سراح الشيء المرهون. إن ما يعنيه هذا هو أن رمضان وعوالمه المقدسة في منطقة الأطلس كان مكثفا لبعض القيم الإنسانية القوية والمهمة عند الناس أساسا، لهذا يقول حفتي محمد: «رمضان راه عزيز عند كل واحد»، ولهذا يتحسر على ما انقرض من ملامح مميزة لأجواء رمضان، ويربط بين الحديث عن رمضان والحديث عن الصدق وكلمة الرجالة، وكرامة الصالحين، وحرمة القبيلة، ولهذا كذلك يختم حديثه بالقول «وخا رمضان عزيز ديما، الإيمان مشى مع اللوالا».