يعتبر عزيز، عن خبرة وتجربة، أن «السجن في المغرب لا يقوم بأي دور تربوي. بل ويذهب إلى أن هذه المؤسسة لا يمكن إصلاحها ما دامت على ما هي عليه. فمن خلال تعدد المرات التي تنقل فيها بين سجون المملكة، يؤكد عزيز أن كل شيء هناك بمقابل، التغذية والمعاملة. كل الظروف حسب عزيز مواتية لدفع السجين إلى احتراف الإجرام. ترى ماذا يقول مجموعة من المساجين السابقين؟ تحكي أخبار المدن عن عدد لا يحصى من المنحرفين، كما تتداول أساطير عن أشخاص في هذا الحي أو ذاك عرفوا أساسا بسبب كثرة ترددهم على السجن، وهذا ما يجعل الاقتراب منهم يعني شيئا آخر غير البحث عن «جوا منجل» كما تؤكد تمثلاتنا عنهم، إلا أن هذه التمثلات وإن، كانت تنطبق على الكثير من الحالات تبقى غير عادلة بالنسبة إلى حالات أخرى خاصة حين ترتبط بظروف هؤلاء الاجتماعية وبموقف الجهات المعنية التي عليها أن تعمل كل ما من شأنه أن يقلص مساحة الأعطاب في أعماق الناس جميعا، وما يمكنه أن يصلح ما أفسده عنف الحاجة والجوع والحياة بدون معنى. ملاقاة نماذج من الناس الذين دخلوا السجن مرار وعاشوا فيه لسنوات طويلة بسبب ما ارتكبوه من أعمال، يعاقب عليها القانون والإنصات لهم يقول أشياء أخرى غير تلك التي نتداولها جميعا، وهذا بالضبط ما ينطبق على الحالات التي قصدناها بمنطقة باب الفتوح وصهريج كناوة وسيدي بوجيدة بفاس. قصدناهم في أماكن تواجدهم، وفي الفضاءات التي سجلوا فيها حضورهم القوي الذي لا يمكن أن ينازعهم فيه إلا من هو من طينتهم، وجالسناهم في بيوتهم فكانوا بكامل الوداعة التي تبني الجوهر الإنساني فينا جميعا. طبعا قياس الوداعة بشكل حقيقي يجب أن يستحضر حالة خصام هؤلاء ومطاردتهم، ووقوفهم كأبطال منافسين وقت المعركة، وهو ما ستتأكد منه جهة باب الخوخة حين نشبت حرب الدروب بين مجموعتين فرضتا على المنطقة حالة استثناء دفعت الناس إلى البحث عن منافذ لتغيير اتجاهها. من هذه الحالات (ع.ب) الذي تآلف مع عوالم السجن بعد أن دخل في سن ال18، الدوافع الأساسية للدخول المتكرر ليوسف إلى السجن كانت بسبب الشجار وتبادل الضرب والجرح. أصل الجريمة بالنسبة إلى يوسف فإن ظروف الناس الاجتماعية هي سبب مصائبهم، لهذا يمتلئ السجن بأبناء المحرومين والفقراء، فهؤلاء يرتكبون ما يؤدي بهم إلى السجن لأن الواقع حرمهم من كل شيء، بل إن فقرهم يجعل منهم أناسا غير عاديين ومرضى وهذا ما يدفعهم إلى الانحراف أو الجريمة. «فأنا مثلا كنت أعيش في كنف أسرتي كان أبي يتكفل باحتياجاتي، لكن بعد أن توفي وجدت نفسي في بحر من الأمواج كان علي توفير خبز أسرتي، فأشتغلت في أعمال عديدة منها حراسة موقف السيارات، وعشت الكثير من المعاناة وهذا ما ورطني في مشاكل عديدة أدت بي إلى العودة للسجن بعد مرحلة اعتقالي الأولى لحوالي 10 مرات. تبرير الانحراف بالمعاناة والحاجة والظروف الاجتماعية هو ما يذهب إليه محمد الذي قصدناه في موقف سيارات النقل السري. الصورة التي قدمه بها مرافقي فرضت علي بعض الحذر قبل ملاقاته وقد انتعش هذا الحذر أكثر مع زخات المطر التي تهاطلت ذلك المساء مما قوى عندي الرغبة في تأجيل هذه المهمة. لم يحصل هذا لأن لقاءنا بمحمد وفر لنا دفء سيارته التي يكسب بها قوته كما وفر لنا رغبة إضافية لملاقاة حالات أخرى، خاصة أن حديثه كان بكل عفوية وصراحة، وبكامل التقدير لما نرغب في القيام به. فعن حياته بين السجن وخارجه تحدث محمد طويلا، وفي هذا يقول: «دخلت السجن أكثر من 15 مرة. كانت البداية سنة 1975 وكنت في السادسة والعشرين من عمري، حيث توفي أبي وترك تسعة أولاد»، استعان محمد بأصابعه على عدهم وتسميتهم، «ولا أحد كان بإمكانه إطعامنا. كنت أشتغل في الخياطة إلا أن سوء وضعيتنا دفعني لامتهان بيع الكيف وهو ما أدى بي إلى تجربة السجن الأولى التي قضيت فيها 4 أشهر كانت كافية لأتآلف مع عوالم السجن. وأعتبر أن ما كانت تعاني منه أسرتي من محنة هو السبب وراء انحرافي ودخولي السجن، فأنا لم أقبل بأن تموت هذه الأسرة جوعا وكان علي أن أتدبر خبزها بأية صيغة ولا تهم النتائج في آخر المطاف». إلى نفس الأسباب يشير عزيز الذي أسند جسده الضخم إلى الحائط، وهو يتحدث عن مرارة السجن والواقع حيث يقول: «الجوع وقلة اليد والمسؤولية العائلية وغياب أي دخل من الأشياء التي تدفع لارتكاب ما هو ممنوع والدخول إلى السجن. فما يوجد في الواقع يزكي الانحراف، ومن ينحرف يصعب إصلاحه غالبا»، إنه ما يقوله منير الذي وجدناه «ناشرا» رجله المصابة فوق كرسي في حي واندو الذي عرف الكثير من الأسماء التي روعت «سكينته» دوما. منير دخل السجن في ال14 من عمره بسبب سرقة محل لبيع التمور. الطيش هو الدافع إلى ذلك في مثل هذا العمر، يقول منير، «إلا أن حياة السجن ستورطنا في العودة إليه لمرات، خاصة أن وضعنا خارجه لم يكن ليوفر لنا أي شيء». للظروف أهميتها بالنسبة إلى الغالبية لكن هناك دوافع أخرى قد تكون ما سماه منير الطيش، وقد تكون نزوات الشباب أو سوء تفاهم بسيطا يفضي بالشخص إلى أزيد من ربع قرن وراء القضبان، كما كان الأمر بالنسبة إلى يوسف المعروف بالطامس الذي دخل السجن حوالي 30 سنة بعد خلاف بسيط مع أحد أبناء الحي انتهى بجريمة قتل. قد يتدعم الطيش أحيانا بالرفقة السيئة التي قد تفتح أبواب جهنم على أصحابها وليس أبواب السجن فقط، وهذا ما أكده عبد الرحمان بوهيادر الذي ورطه حب معاكسة رجال الأمن والخصام معهم وتبادل الضرب والجرح مع الناس في سنوات عديدة من السجن، وفي العيش مع وهم المطاردة حتى وإن كان قد قطع مع ماضيه الآن. تكريس الانحراف تجربة السجن لدى كل هؤلاء لها طعم المرارة كما يظهر ذلك من خلال حديثهم، إلا أن المرارة القاسية هي حين نفهم من كلامهم أن السجن لم يصلح أي شيء فيهم، بل إن ما عمق الانحراف لديهم ولدى الكثيرين هو حياة السجن، واستراتيجية هذه المؤسسة التي ليس لها أي دور تربوي مهما كان حجم الحكم والعقاب وبالنسبة لعزيز الذي تجول بسجون عديدة بفاس ومكناس وخنيفرة «السجن ليس له أي دور تربوي، وليس بإمكانك أن تصلح ذاتك داخله لأن كل شيء هناك له مقابل، سواء الزيارات أو التغذية أو المعاملة. فالظلم لا يتصور والناس مهملة نهائيا هناك. كل الظروف في السجن –حسب بزيز- مواتية لدفع المسجونين إلى احتراف الإجرام، وبداخله تتشكل العديد من العصابات التي تبدأ عملها مباشرة بعد خروج أفرادها من المعتقل، السجن ليس مؤسسة إصلاحية بل مدعمة لاحتراف الجريمة ولو كانت تلعب هذا الدور بشكل حقيقي لكانت تجربة اعتقالي الأولى سنة 1976 كافية لإصلاحي وتحولت حياتي نهائيا بعد ذلك. فهذا لم يحصل لأني عدت إليه مرات عديدة بعد ذلك. وأظن أن من يدخل إلى السجن يتعود على عوالمه، وتكون العودة إليه جد عادية بالنسبة إلى الكثيرين». إن قول عزيز يؤكده الواقع بشكل كبير لهذا تكثر حالة العود، ويعود المنحرف والمجرم إلى ارتكاب أعمال وجرائم أكبر أحيانا مما ارتكبه في المرة الأولى، وحسب الكثير من الناس كلما كانت هناك حملات للعفو كبيرة ويستفيد منها الكثير من المساجين كلما عادت فئة كبيرة من هؤلاء المفرج عنهم إلى ممارسة الأعمال التي دخلوا من أجلها إلى السجن لكن باحترافية أكبر. ما يستدل به عزيز على غياب الدور الإصلاحي للسجن وتعويض ذلك بالظلم الذي لا بد أن يضاعف من انحراف السجين هو واقعة إهمال أحد أصدقائه من السجناء واسمه «الطامس» كان محكوما ب10 سنوات قضى أغلبها وحين بقيت له مدة قصيرة لا تصل إلى الشهرين أرغم على الموت بسبب الإهمال. فقد كان مريضا، وانتبه السجناء إلى تدهور صحته واحتجوا كثيرا لدفع الإدارة إلى التحرك لإنقاذ حياته لكنها لم تقم بالواجب فتوفي «الطامس»، فكان تحركها الوحيد هو معاقبة بعض المحتجين ومنهم باعزيزي بالكاشو مما دفعهم إلى الدخول في إضراب عن الطعام. غياب أي دور تربوي لمؤسسة السجن هو ما تؤكده شهادة (ع.ب)، فحسبه «لا يمكنك أن تضيف أية إفادة إلى حياتك وتجاربك، بل قد تضيع ما تبقى فيك من إيجابيات أثناء قضاء المدة المحكوم عليك بها»، فالمجرم الحقيقي حسبه يتكون في بيت الإجرام، ولا يمكن لمكان يجمع المجرمين أن يصلح الناس لأن كل شيء فيه يدفع في اتجاه احتراف الجريمة» حيث يقول بودراع: «هذا لا يعني أن السجن فضاء مريح، والعودة إليه تتساوى مع حياة الحرية بل يعني أن السجن محنة حقيقية ومعاناة بلا حدود إلا أن الاستراتيجية التي يقوم عليها لاتدفع الناس إلى مراجعة ذواتهم بل تشجعهم على العودة للجريمة، خاصة أن ظلم السجن يولد الرغبة في الانتقام وكل ما هو سلبي في أعماق المعتقلين، إنه عالم الدمار بامتياز لكن الذي يدمر معنى حياة الناس قبله هو الواقع ومعاناته. كل من يدخل السجن يخرج بجراح في نفسه وشخصيته قد لا تشفى، لهذا يسعى إلى الانتقام منها بصيغته الخاصة. ففي السجن كل شيء مباح بحسب منير، هناك تجد السكاكين والبيع والشراء في كل شيء. وهو الرأي الذي يدعمه عزيز الذي عاش التجربة لمرات عديدة، فالسجن بنظره «علم للجريمة والظلم والحكرة بكل أنواعها، وشخصيا شهدت ما لا يحصى من حالات الظلم والاعتداء بكل أنواعه. فأنا كنت مسؤولا عن مهام عديدة في فترة اعتقالي وكنت أعرف كل الموظفين وكل ما يقومون به. السجن –برأي عزيز- ليس له أي دور إصلاحي، وهناك نماذج عديدة أعرفها دخلت السجن لأسباب تافهة أو حتى وهي بريئة لكنها تذكر الآن في كل حديث عن الإجرام والانحراف وذلك لأنها تمرست على الإجرام داخل السجن». الواقع وصعوبة الإدماج «بغينا غ راحة الله»، «كن غير يخليونا نصورو طرف ديال الخبز»، «باغينا نطيحو شي بطانة ونموتو في الحبس»، «الله يعفو على الجميع» إلخ، إنها بعض الخلاصات التي تتردد على لسان غالبية الحالات التي استمعنا إلى شهادتها، والتي لم نشر إليها جميعا في هذا الموضوع، ويفهم منها أن غالبية الذين عاشوا تجربة السجن طويلا يرغبون في إيجاد أية طريقة لكسب لقمة العيش بعيدا عن حياة الانحراف أو الجريمة. إلا أن استفزاز هذه الجهة أو تلك يحيي لديهم كل الجراح وكل الرغبة في العودة إلى حياة الماضي. (ع.ب) أصبح اليوم رب أسرة واختار مهنة حراسة السيارات قرب إحدى الثانويات بسيدي بوجيدة، في أرض أصحابها لم يطالبوه بأي شيء، إلا أن ما يقلقه هو تواطؤ قائد مقاطعة وادي الزهون وعون السلطة هناك مع مالكي حق استغلال أحد مواقف السيارات غير بعيد عن موقف (ع.ب)، هؤلاء الذين يهمهم طرد بودراع من مكانه وهو ما دفعه إلى رفع شكاية إلى أكثر من جهة بفاس، وهذا ما أعطى ثماره إلا أن بعض الظروف تدفعه إلى العودة أحيانا لاستفزازه وهو ما دفعه في إحدى المرات إلى مصاحبة أبنائه الستة واستعداده لقتل أحدهم وقتل كل من يقترب منه. كان طبعا في لحظة هيجان بعد إحساسه بالظلم، خاصة أنه لا يرغب في أن يمنح أي جهة رشوة من قوت أبنائه. رفض منح بعض المسؤولين الرشوة هو ما يوحد (ع.ب) مع عناصر أخرى خاصة محمد بزيز الذي سبق له أن تقدم بشكاية إلى وكيل الملك، بسبب المضايقات التي يلاقيها من رجال الأمن، لقد أنهكته أيام السجن الطويلة، والآن تستفزه مضايقات رجال الأمن فيما هو يريد كسب قوته فقط. وكسب القوت هو ما لم يفكر فيه المجتمع ومؤسسة السجن لأن كلاهما لا يمتلك أية استراتيجية لتأهيل نزلاء السجن من أجل الاندماج الطبيعي في الحياة والمجتمع، ليبقى بذلك البؤس الاجتماعي خالقا للانحراف والجريمة وهو ما تغذيه عوالم السجن سواء بمدينة فاس أو بباقي مدن المغرب.